المذكرات الكاملة لأول مرشدة في تاريخ الإخوان
السيدة فاطمة عبدالهادي واحدة من مؤسسات قسم الأخوات المسلمات وأبرز قادته. كانت ضمن جيل التأسيس الأول للعمل النسوي الإسلامي. وهي زوجة لشخصية بالغة الأهمية رغم عدم شهرتها (محمد يوسف هواش)، ولربما كان أهم شخصيات تنظيم 1965 الشهير الذي ينسب للمفكر الشهير سيد قطب.
والسيدة فاطمة عبدالهادي شاهدة عصر بكل ماتعنيه الكلمة. فهي ممن شاركن في وضع اللبنات الأولي في بناء قسم الأخوات المسلمات: ذلك العالم الذي مازال بعد ثلاثة أرباع القرن مجهولاً في تاريخ الإخوان المسلمين والحركة الإسلامية عموماً.
وأهم ما يميز شهادتها النادرة أنها تقدم روايتها الخاصة جداً وهي تحكي عن أحداث ووقائع شكلت تاريخ الإخوان، بل مصر كلها في مرحلة تاريخية بالغة التعقيد، وتري علاقتها بأشخاص غيروا مسار التاريخ؛ بعضهم انتهي إلي الموت شنقاً وبعضهم صار رئيساً للجمهورية.
إنها رواية شاهد عيان وشاهد ملك أحياناً حين تشارك في الأحداث، وهي لا تلجأ كما فعل آخرون إلي التوسع والمبالغة وربما الخيال حتي وهي تحكي مأساتها الخاصة ومعاناتها وأسرتها الصغيرة؛ ابنتها وابنها الصغيرين اللذين عاشا محنة اعتقال الأم وسجن الأب سنوات طويلة ثم إعدامه.
ولدت لأسرة تقليدية تحمل سمات وطباع المجتمع المصري المسلم المتدين بالفطرة، كان أبي صعيدياً من مركز المراغة بمحافظة سوهاج في صعيد مصر، والصعيد هو موطن القيم والتقاليد المحافظة، وقد كان جدي لأبي ـ الشيخ إبراهيم ـ رجلا متدينا وكان صديقا حميما للشيخ محمد مصطفي المراغي شيخ الأزهر الشريف.
كان أبي يعمل موظفاً في وزارة الأوقاف، وكان يجلس معنا عصر كل يوم بعد الصلاة مباشرة ويحدد لنا حديثاً نبوياً من صحيح البخاري ويشرحه لنا ثم يكلفنا بحفظه وفهمه، ولكن للحق فلم يكن ذلك ليلامس شغف قلوبنا إذ كانت قراءة بلا تأمل أو تدبر ولم تكن لتنعكس علي سلوكنا، فلم أكن ـ مثلاً أرتدي الحجاب بل كنت مثل بنات جيلي نلبس ملابس قصيرة، وكان أقصي مانفعله أن نضع الايشارب عند أداء الصلاة، وإن كنا نحرص علي الالتزام بالأخلاق وعدم الابتذال.
ولدت في 27 من سبتمبر عام 1917، وكان مولدي في مركز التل الكبير التابع في ذلك الوقت لمحافظة الشرقية، حصلت علي الابتدائية ثم سافرت من التل الكبير للدراسة في مدينة الزقازيق، وبقيت عاما ونصف العام أعيش فيها بعيدة عن أهلي مع أختي الصغيرة، وكنت أدرس في مدرسة إعدادية اسمها «الراقية» لم أوفق في الشهادة الابتدائية في الزقازيق فانتقلت إلي القاهرة للدراسة قريباً من أهل أمي في حي السلطان أبوالعلا، ولم أشعر بالراحة كثيراً في الإقامة عند الأقارب رغم ترحيبهم بي وحفاوتهم فعدت بعد الاعدادية ودخلت مدرسة المعلمين وتخرجت فيها عام 1937.
تفوقت في دراستي بمدرسة المعلمات وحصلت علي الترتيب الأول في الدراسات النظرية ولكنني تراجعت إلي المرتبة الرابعة عشرة بسبب المواد العملية بالدراسة التي لم أكن مستعدة لها، ومازلت أذكر مادة التدبير النسوي التي كانت سبب تراجعي حيث طلب مني في الامتحان إعداد بسكويت بالنشادر إفطار لخمسة أفراد وكفتة سمك غداء لعشرة أفراد ولم أنجح فيها بسبب الوقت.
كان أخي سيد أبوالنور يدرس بإحدي المدارس الداخلية بحي شبرا ثم كلية الهندسة، وقد رفض وقتها أن يسكن عند أقارب والدتي المقيمين بالقاهرة، ولم يجد سكناً، وكنت وقتها أعمل بالتدريس في الاسماعيلية فاقترحت علي والدي أن أطلب نقلي إلي القاهرة لأكون قريبة من أخي وأراعيه أثناء دراسته علي أن يأتي أخواتي البنات فتقيم كل واحدة منهن معنا شهراً ، بل وأدخلت أختي الصغيرة كاميليا إلي المدرسة في القاهرة لتكون معنا.
انتقلت إلي القاهرة للعمل معلمة بمدرسة في حلمية الزيتون، وذات مرة وأثناء رجوعي من عملي قابلت في الترام سيدة كانت سبباً في تغيير مسار حياتي تماماً. ففي أثناء جلوسي في الترام التقيت بالأخت فاطمة البدري، وكانت تبدو عليها سمات الأخلاق والتدين فتقربت مني وتجاذبنا أطراف الحديث فحدثتني عن التدين والأخلاق والدعوة إلي الله والأخذ بيد الناس إلي طريق الحق.. وغيره من المعاني الجميلة ثم أعطتني ورقة كانت دعوة لحضور درس ديني، كان مكتوباً علي الورقة قول الله تعالي (قل هذه سبيلي أدعو إلي الله علي بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وماأنا من المشركين) وكان بها عنوان مكان الأخوات المسلمات في حي الناصرية.
انشرح صدري لهذه السيدة ولكلامها وارتحت لفكرة حضور هذا الدرس الديني ولما عرضتها بعد عودتي علي أخي سيد أبوالنور إذ به يشاركني الارتياح بل يشجعني علي الحضور ويطلب مني الانضمام إلي هؤلاء الأخوات.. وفيما بعد عرفت أن أخي أبوالنور كان قد أصبح من الإخوان المسلمين وكان قريباً من الأخ مصطفي مؤمن والاخ سعيد رمضان أبرز قيادات الحركة الطلابية من شباب الإخوان.
انتظرت بشوق موعد الدرس وكان أول درس أحضره في مقر الأخوات المسلمات في حي الناصرية للشيخ عبداللطيف الشعشاعي ـ رحمه الله ـ كان الرجل كفيفا وكانت تحضر معنا زوجته الأخت زينب، وكان عدد من يحضرن درسه يتراوح من سبع إلي ثماني أخوات، وكان ممن يحضرن الدرس اضافة للأخت زينب زوجة الشيخ الشعشاعي الأخت أمينة محمد زوجة الأستاذ محمود الجوهري الذي كان حلقة الوصل بين الأخوات والمرشد العام الشيخ حسن البنا، والأخت فاطمة البدري التي زوجناها فيما بعد لأحد الإخوة وكان يعمل محاميا وقد أعدم رحمه الله فيما بعد مع الشهيد الأخ عبدالقادر عودة في أول صدام مع الثورة، وكان مسئولا عن محمود عبداللطيف الذي اتهم في محاولة اغتيال جمال عبدالناصر في حادثة المنشية، والأخت فاطمة توفيق، والأخت فاطمة حسين من العباسية.
كان الدرس يبدأ بعد العصر، فكنا نجلس علي مقاعد خشبية نستمع إلي الدروس حتي آذان المغرب فنقوم للصلاة، وكان أخي أبوالنور قد طلب مني قبل الذهاب للدرس أن أستعير «إيشارباً» من الجيران حتي أرتديه عند ذهابي فوضعته في حقيبة يدي ونسيته، فلما أقيمت الصلاة قالت لي الأخت أمينة محمد «أمينة الجوهري»: كيف ستقومين للصلاة وتقفين بين يدي الله بهذا الشعر المكشوف وهذه الأرجل العارية؟!
تلك كانت الأخت أمينة محمد وشهرتها «أمينة الجوهري» نسبة إلي زوجها، فما كان مني إلا أن وضعت «الايشارب» فوق رأسي ووقفت أصلي بملابسي القصيرة التي كانت تعلو الركبة كموضة هذه الأيام.
أخت في قسم الأخوات المسلمات
كان هذا في عام 1942 تقريباً، ولم يكن عمري قد جاوز الخامسة والعشرين، وكان هذا اللقاء أول علاقة لي بالأخوات المسلمات، وكان سبباً في أن شرح الله صدري لهن، فعند عودتي إلي المنزل سألني أخي أبوالنور عن رأيي في الدرس وفي الأخوات، فقلت له إنه ورغم أن المكان كان بسيطاً ومتواضعاً ولم يكن مهيئاً للدرس إلا أن الجلسة كانت مريحة وانشرح صدري لها، وعقدت مقارنة بين هذه الجلسة وجلستنا في السينما فشعرت كم كانت جلسة طيبة. فسعد أخي واستبشر وحمد الله.. وحتي حين أبديت عدم رضائي عن بعض الأمور في اللقاء وعدم اقتناعي بها قال لي إن الاسلام ليس ملكًا لأحد بل لكل المسلمين، وهم جميعاً مسئولون عنه امام الله، وطلب مني إذا رأيت شيئاً لا أرتضيه أن أعمل علي إصلاحه أو تغييره وألا أخشي من ذلك.
بدأت أنتظم في حضور هذا الدرس وبدأت علاقتي توثق بالأخوات المسلمات وصار الإقبال يزيد يوماً بعد يوم لذلك فكرنا في الانتقال لمكان آخر غير مقرنا في حي الناصرية، واستقر رأينا وقتها علي حي المنيرة، فقد وجدنا مكاناً مناسباً عبارة عن منزل واسع من دورين لأحد الباشو اتلم تتبق من أسرته إلا ابنه وحيدة علي قيد الحياة، سكنت هذه الابنة الدور العلوي من البيت وتركت لنا الدور الأسفل، وكان عبارة عن شقة كبيرة أسفلها «بدروم» كبير وفناء واسع كانت من الاتساع بحيث قمنا بإعادة تنظيمها بحيث تضم حديقة ومصلي كبيرا وسكناً للخفير وأعشاشا للدجاج، أما بقية المنزل فأصبح دارا لنا «الأخوات المسلمات»، بل لقد فكرنا وقتها في أن ننشئ فيه مدرسة ودارا للأيتام استغلالا للحجرات الكثيرة.
حين قررنا الانتقال عرضنا الأمر علي مسئول الأخوات الأستاذ محمود الجوهري وأخذنا بتوجيهاته، ونشط العمل بين النساء وزاد عدد الأخوات وعدد المترددات علي دروسنا ثم توسع نشاطنا فأقمنا مدرسة أسميناها «دار التربية الإسلامية للفتاة» بشارع بستان الفاضل بالمنيرة وخصصناها للفتيات اليتيمات.
كان عددنا ست أخوات كما أسلفت: أمينة الجوهري وفاطمة توفيق وفاطمة البدري وزينب زوجة الشيخ الشعشاعي وأخت الأخ محمود سعيد وأنا، وفاطمة عبدالهادي، وصرنا فيما بعد نواة قسم الأخوات المسلمات، وأول من بدأن العمل النسوي المنظم في الجماعة. قبلنا بسنوات كان هناك تجمع للأخوات المسلمات لم نلحق به، وكانت رائدته الحاجة لبيبة أحمد رحمها الله، ولكنه لم يكن جزءا من تنظيم الإخوان بل كان تعاونا بينها وبين الشيخ البنا، أما تجمعنا نحن فكان تابعا مباشرة وبشكل منظم للإخوان وكان مسئولا عنه الأستاذ محمود الجوهري ويتابعه مباشرة المرشد العام الشيخ حسن البنا.
وللتاريخ أيضا أقول إن الأخت زينب الغزالي كان لها نشاط في الدعوة الاسلامية بين السيدات. لكنه كان مستقلا عن جماعة الإخوان، ولم تنضم إليها إلا متأخرا بعد وفاة الشيخ حسن البنا، وأذكر أثناء دخولي الإخوان سنة 1942 أن الأخت زينب كانت أسست جماعة السيدات المسلمات، وكان لها نشاط كبير فقلت وقتها للشيخ حسن البنا: لماذا هناك انقسام في الدعوة؟ ولماذا لا تنضم إلينا الأخت زينب الغزالي؟ فقال لي: والله يا أخت فاطمة نحن عرضنا عليها ذلك، وعرضنا أن تكون مسئولة قسم الأخوات لكنها اشترطت أن نطلق عليه «السيدات المسلمات»، فقلنا لها نحن الإخوان المسلمون وستظل الجماعة كما هي، وسيكون هناك قسم للأخوات أنت رئيسته أو المسئولة عنه فرفضت،ولم تلحق بالجماعة إلا عام 1965.
لم يمض علينا كثير من الوقت حتي توسعت اهتماماتنا الدعوية، وصممنا وقتها ألا نكتفي بحضور حلقات الدرس فقط،بل رأينا أن تكون لنا نشاطات أخري، فكنا نذهب يوم الجمعة للشيخ حسن البنا في دار الإخوان المسلمين، وكنا نحضر درسا خاصا بنا يلقيه علينا الشيخ حسن البنا بنفسه، وكان الرجل نموذجاً في الخلق والحياء إذ كان يجلس أمامنا منحنياً مطأطئ الرأس لا ينظر إلي وجوهنا.
في هذه الفترة انضمت إلينا حكيمة «ممرضة» اسمها الحاجة زبيدة، وكنت تعطينا بعد درس الشيخ حسن البنا درسا في التمريض، ثم نذهب بعدها لمنزل الأخ محمود الجوهري فيأتي إلينا الشيخ سيد سابق ليعلمنا قراءة القرآن قراءة صحيحة.
وقد استحوذت علي إعجابي في هذه الفترة فتاة اسمها محاسن حمودة، كانت طالبة بالصف الثاني الثانوي بمدرسة المنيرة، فاستأذنت فضلية الشيخ في أن تحضر منا، خاصة أنها تتمتع بالنبوغ والذكاء والاجتهاد في الدعوة، فأجاب بالموافقة فانضمت إلينا، وكنت قد سعيت في زواجها فيما بعد فزوجتها الأخ فؤاد الخطيب ابن سفير السعودية في الهند وقتها، وقد أصبح هو الآخر سفيرا فيما بعد، وقد توفيت قبل أعوام رحمها الله.
كانت تأتي معنا أحيانا وفاء بنت المرشد حسن البنا، وكان قد طلب مني أن أضمها، أما زوجته فكانت تمكث في المنزل ترعي أبناءها، ولم يكن لها أي نشاط دعوي، بل لا أكاد أتذكر اسمها وربما لم أعرفه أصلا، وإن كانت سيدة فاضلة من أسرة كريمة ومتدينة.
مع آمال العشماوي ونساء بيت الهضيبي
بدأنا العمل في الدار الجديدة، كما نشطنا أيضاً في المدرسة التي خصصناها للفتيات اليتيمات وكنا نقدم فيها الرعاية الكاملة لهن ولأسرهن، وأذكر أنه في عام 1948 وبعد عودة المرشد الشيخ البنا من الحج أننا ذهبنا نزوره في منزله نحن الأخوات الست المشرفات علي العمل بين النساء فقال لنا: سنضم إليكن عضوة جديدة اسمها آمال العشماوي ابنة العشماوي باشا وزير المعارف، فأوصيكن بها خيراً وأذكر أنني سألته أثناء هذه الجلسة عما كنا سمعناه من قرار حل الجماعة فكان أن رد بسخرية وقلق: فليحلوها! فقلت مندهشة: وكيف؟! فاستمر قائلاً: وهل سيغلقون الشُّعَب؟ فليغلقوها وهل سيصادرون المصاحف؟ فليصادروها! كل ذلك وأنا مندهشة فسألته: وماذا يتبقي لنا؟ فقال: يا أخت فاطمة.. إنهم لن يمحو الإيمان من القلوب.
بعد هذه الجلسة التحقت بنا الأخت آمال العشماوي فأحدثت نقله هائلة في العمل الدعوي، بما كانت تتحلي به من أخلاق وقدرات فريدة إضافة إلي ما أتاحه لها وضعها الاجتماعي المتميز.
لقد كانت الأخت آمال العشماوي من خيرة الأخوات اللائي دخلن الدعوة، توثقت علاقتنا منذ أن التحقت بنا في عملنا في الدار الجديدة بحي المنيرة، وصرنا لا تتحرك واحدة منا إلا بصحبة الأخري، وقد كانت رحمها الله ذات خلق رفيع وتواضع جم، ولما دخل الإخوان السجون عام 1954 كانت من أكثرنا نشاطا في جمع الأموال والتبرعات لأجل أسر الإخوان المعتقلين، ولهذا فقد كانت علي رأس المعتقلات في محنة عام 1965، لكنها كانت نعم الأخت الصابرة المحتسبة، وقد اعتنت بي كثيراً لما أصابني النزيف في المعتقل، وكانت تدعو لي بالشفاء، وهي التي قادت احتجاج الأخوات علي استمرار اعتقالي وأنا أنزف، وأجبرن الضباط علي ضرورة نقلي إلي مستشفي قصر العيني، وودعتني باكية: مع السلامة يافاطمة.. إن شاء الله ربنا سيشفيك وكانت دائماً ماتخفف عني وعن الأخوات المعتقلات.
ومما أذكره لها أيضاً في السجن أن الطعام كان سيئاً وعافته بعض الاخوات، وكن يبكين من الجوع حتي ان الأخت سنية الوشاحي أصيبت بهبوط من قلة الطعام، وكان الطعام يأتي إلينا في جردلين، في كل منهما فول نابت وقد غطي بقشر البصل وبعض الماء وبلا ملاعق، فكانت الأستاذة آمال العشماوي وهي ابنة القصور وسليلة الباشوات تخفف عنا وتشجعنا علي الأكل فتأكل هذا الطعام الرديء باستمتاع: الله كله من خيرك يارب.
الزواج من يوسف هواش والتعرف بسيد قطب
تأخر زواجي بالنظر إلي سن الزواج في هذه الفترة، والحق أنني كنت غارقة في أعباء أسرتي الصغيرة، وكنت شديدة الحرص علي أن أطمئن أولاً علي زواج أخواتي البنات، وذات مرة وكنت قد قاربت الخامسة والثلاثين من العمر جاءني أخي سيد أبوالنور، وقال لي إن الأستاذ محمود الجوهري المسئول عن قسم الأخوات المسلمات في الجماعة قد أخبره برغبة أحد الاخوة في الزواج مني، فسألت أخي عن مؤهلاته فقال إنه يحمل شهادة متوسطة، دبلوم صنايع، فما كان مني إلا أن رفضت، فرد أخي قائلاً: أنت ليس معك إلا شهادة كفاءة المعلمات! فقلت له: ولكنني بعد انضمامي إلي الأخوات أصبحت شيئاً آخر! فقال لي: هو أيضاً مثلك من الإخوان! ثم بدأ يقص عليّ حكايته حتي أطمئن إليه، وأخبرني أنه تعرف علي هذا الأخ الذي يطلب يدي من خلال الأسرة التي ينتمي إليها في الجماعة والتي كانت تضم معه الأخ الدكتور أحمد الملط والحاج راضي سلايمة - وهو فلسطيني كان يمتلك محل بقالة كبيراً «سوبر ماركت» - وقال لي: إننا وأثناء تعرفي علي أفراد الأسرة كان من بينهم رجل وسيم جميل الخلق ومهذب فقلت في نفسي إن أختي فاطمة وبعد طول صبرها معي تستحق أن تتزوج من رجل كهذا.. ثم إذا به يتقدم لك.. وسألني أخي: ما رأيك؟ فوافقت دون أن أراه! وكان هذا الأخ هو محمد يوسف هواش الشهيد الذي أعدم مع الأستاذ سيد قطب في عام 1965، رحمة الله عليهما وعلي جميع شهداء الإخوان.
كان محمد يوسف هواش من أسرة كريمة وطيبة ينتهي نسبها للخزرج، وكانت أسرته ميسورة الحال تعيش وتعمل في الزراعة في قرية كفر الحمام في مركز بسيون بمحافظة الغربية، ثم انتقلت الأسرة إلي كفر الدوار بمحافظة البحيرة، وكان له من الاخوة ستة ذكور هو أكبرهم جميعاً، ويليه بالترتيب أحمد وعبدالحميد ورمضان وبسيوني والسيد وعبدالفتاح، وكانت له أخت وحيدة.
حين تقدم محمد يوسف للزواج مني كان أصغر مني بخمس سنوات تقريباً، حيث إنه من مواليد 21 أكتوبر عام 1922، وكان حاصلاً علي شهادة دبلوم المدارس الثانوية عام 1943 قبل أن ينتقل للقاهرة ويعمل بمصانع الشبراويشي للعطور في حي مصر القديمة.
وقد خطبني محمد يوسف هواش من أخي سيد أبوالنور مدة سنة دون أن أراه! وكان كلما قابل أخي في درس الثلاثاء يقول له: مازلنا علي عهدنا، وكان السبب في تأخيره للزواج كما علمت لاحقاً هو وجود نزاع بين عائلته وعائلة عمدة بلدتهم، فكان لا يريد إتمام الزواج إلا بعد أن يفض هذا الخلاف.
وقد أصابني الضيق من طول الخطبة دون أي تقدم في الارتباط بل ودون أن أراه فقلت لأخي ساخرة وغاضبة ذات يوم: قل لصاحب عهدنا أن يفض عهدنا!! وقد كان فأبلغه بقراري فض الخطوبة أو العهد، ولكن بعد سفري إلي أهلنا في التل الكبير وصلتنا برقية من أخي سيد يقول فيها: احضري فوراً فعقد قرانك يوم الأحد!
تعجب والدي من برقية أخي وسألني ما العمل؟ فقلت له لنسافر! وفعلاً قام والدي بعمل إجازة وسافرنا إلي القاهرة، وتم عقد القران والذي اكتفي فيه محمد يوسف هواش بحضور أحد أعمامه الذي كان يعمل موجهاً بوزارة التعليم.. كل ذلك ولم أكن قد رأيته بعد! فقط كنت أثناء خطوبتنا قد سألت حكيمة اسمها «كوكب» كانت تحضر بعض دروس الأخوات التي كان يلقيها عليهن محمد يوسف هواش أن تصفه لي فأثنت عليه خيراًً.
ويوم عقد القران جاء الشيخ عبداللطيف الشعشاعي في شعبة الإخوان بالمنيل وكان مرتدياً عباءة وأخذ ينشد ونحن نردد وراءه: «أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم»، ثم قال لمحمد هواش: تفضل يا عريس، وكانت هذه أول مرة أراه فيها.. فجلسنا في صالون المنزل ودار بيننا حديث قصير أخبرني فيه أنه رآني مرتين قبل أن يخطبني!
كانت المرة الأولي التي رآني فيها عندما أراد البوليس القبض علي الأخوين سعيد رمضان ومصطفي مؤمن ووقع الاختيار علي منزلنا ببات الخلق ليختبئا فيه حيث كان يتبع الأوقاف وكان ذا حديقة كبيرة، ساعتها طلب مني أخي سيد أن أذهب مع إخوتي إلي شعبة الإخوان بالجيزة بعد أن نأخذ ما يلزمنا من الملابس لمدة أسبوع ونأخذ معنا مفتاح شقة الأخ مصطفي كامل بالجيزة لنقيم فيها لأنه كان مسافراً إلي بلدتهم في الإجازة علي أن يختبئ الأخوان سعيد رمضان ومصطفي مؤمن في بيتنا.
وذكرني محمد هواش أنه الذي كان في استقبالنا عند وصولنا إلي شقة الجيزة وأنه سألني ساعتها: كيف أحوالكم؟ فقلت له بل كيف حالكم أنتم؟ وقال لي إنه أعجب بي وقتها بسبب هذا الرد الذي يبين اهتمامي بالدعوة.. وتذكرت ساعتها أننا كنا طوال الأسبوع الذي قضيناه في هذه الشقة نكتب ورقة بما نحتاجه ونضعها مع النقود أمام الباب ليقوم هو بإحضار كل ما نحتاجه.
أما المرة الثانية التي قال إنه رآني فيها فكانت عندما كنت مشرفة علي رحلة المدرسة إلي مصانع الشبراويشي وقام العاملون بإهداء التلاميذ بعض العطور والهدايا، وطلب مني أن أكتب كلمة شكر في سجل التشريفات بالمصنع، وقد وقّعت في نهايتها باسمي «فاطمة محمد عبدالهادي»، وعندما هممنا بركوب السيارة عائدين إذا بأحد العاملين ينادي بأن هناك مكالمة تليفونية لفاطمة محمد عبدالهادي! فتعجبت من ذلك إذ لا أحد يعرف بوجودي في الرحلة! فذهبت ومعي زميلاتي وإذا بشاب يعطيني سماعة الهاتف وكانت علي الطرف الآخر الحكيمة «كوكب» تقول إنها تريد أن تنشئ شعبة للأخوات في المستشفي، فاستغربت لها كيف عرفت بوجودي في الرحلة، لأعرف بعد ذلك من محمد هواش أنه هو نفسه كان الشاب الذي أعطاني سماعة التليفون، ولم يكن من العسير أن استنتج أنه هو من اتصل بـ«كوكب» وطلب منها أن تكلمني لأعود ويستطيع رؤيتي بوضوح وتأن.
وبعد عقد القران حدثت لنا بعض المشاكل حيث تصادف أن قام محمد هواش - وقد كان يعمل رئيساً لمكتب الشحن في مصانع الشبراويشي - بتأسيس اتحاد للعمال للدفاع عن حقوق العاملين، فطلبوا منه حل هذا الاتحاد فرفض.. فقاموا بفصله.
كان زوجي محمد يوسف هواش لا هم له إلا الدعوة التي ينفق لها كل وقته ويضحي لها بالغالي والنفيس، وقد أتعبني كثيراً في بداية زواجنا بسبب أنه لم يكن يري أو يفكر أو يعمل إلا للدعوة، أتاني ذات مرة وكنا عروسين جديدين لم يمض علي زواجنا إلا القليل، وقال لي إن بنات أحد الإخوان يعانين حالة نفسية سيئة بسبب سجن أبيهن وطلب مني أن أحضرهن للبقاء في بيتنا عدة أيام حتي تهدأ نفوسهن! فاستفزني أن لم يراع أنني مازلت عروساً جديدة، فقلت له بتهكم: لا مانع ولكن لنكتب علي باب البيت يافطة «عيادة نفسية»!! وكانت تلك الكلمة كفيلة بأن يحزن كثيراً ويخاصمني عليها أسبوعاً كاملاً!
أيضاً كان هناك فتي صغير بحي مصر القديمة يتولي محمد هواش أمره وينفق علي تربيته، وكان يعامله كما لو كان ابننا، فما أن نجلس لنتناول طعام الغداء حتي يدق جرس الباب فأقوم لأفتح فيدخل الفتي ويجلس مكاني وأنتقل أنا لتناول الغداء في المطبخ! حتي إن الشغالة التي كانت تعمل عندنا اعتادت الأمر فكانت تطلب مني أن آخذ معي طبقي في المطبخ! وللحق فقد أزعجني ذلك كثيراً، وكنت عروساً تريد أن تعيش وتتمتع بخصوصياتها فطلبت منه ذات مرة ألا يأتي الفتي كل يوم وقت الظهر حتي أستطيع الغداء معه وحدنا فما كان منه إلا أن غضب بشدة وسألني مستنكراً: ألست مسلمة؟! إن هذا شاب يتيم أربيه لله.
كان يوسف هواش يقضي يومه كاملاً في العمل مع الإخوان فلا يأتي إلي البيت إلا متأخراً ربما في الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل، وكان يأتي بصحبة الأخ كمال السنانيري الذي كان يسكن بجوارنا، وكانت تجمعهما علاقة وطيدة ومحبة - رحمة الله عليهما - وكان يشفق عليّ من السهر في انتظار عودته فكان يطلب مني أن أترك له الطعام علي المائدة ثم أنام علي أن يتناول هو العشاء عند عودته من دون أن يوقظني، وكان هذا يضايقني فكنت أقول له: لا يمكن أن تهجر البيت من أجل الإخوان.
لقد كان الشهيد محمد هواش رجل دعوة نذر لها كل حياته تقريباً، فكان شديداً في معاملته معي ربما بحكم نشأته الريفية التي أثرت علي نظرته للمرأة، فكان يري أنها يجب أن تنفذ ما تؤمر به دون نقاش، ولكن لما كنت كثيرة النقاش وأحياناً الاختلاف معه كان يقابل ذلك بغضب وحزن، وكان يقارن بيني وبين والدته في معاملتها لوالده، لقد كان يري في والدته المثال للمرأة المسلمة التي تطيع زوجها وتأتمر بأمره، حتي إنه غضب ذات مرة لخروجي لأداء واجب العزاء في إحدي الاخوات - وكانت شقيقة زوجة أخي - دون انتظار إذنه علي الرغم من صلة القرابة التي تجمعني بها، وعلي الرغم من أنه لم يكن موجوداً وقت الوفاة ليأذن لي!
ولكن للحق فقد تغيرت معاملته تماماً لي بعد خروجه من المعتقل عام 1964، فقد شعر بمقدار ما عانيناه في غيابه وتضحياتنا من أجله، ورأي كيف كنت أقوم بخدمة الدعوة بإخلاص وتفان ولا أشكو المعاناة التي استمرت قرابة عشر سنوات، فكان بعد خروجه من السجن إذا رآني مهمومة أو متعبة يحاول أن يخفف عني ويواسيني، وكان يحنو عليّ ويأخذني كالطفلة علي صدره ويقول لي: هذه الرأس التي ضحت صاحبتها وعملت كل هذا من أجلي لا توضع علي الوسادة بل مكانها ذراعي.. وكان يطلب مني أن أسامحه علي شدته معي في أول زواجنا، وكان يقول لي كثيراً إنه لم يكن يعرف حقيقة معدني إلا بعدما رأي تضحياتي معه وعملي من أجل الدعوة.
والحق أيضاً أنه تأثر في ذلك بالأستاذ سيد قطب خاصة في الفترة التي صاحبه فيها في مستشفي سجن طرة حين اطلع علي طريقته الراقية في التعامل مع أخواته البنات اللائي كن يأتين لزيارته في المستشفي، ويبدو أنه تغير تماماً في نظرته للمرأة وتعامله معها بفعل الأستاذ سيد قطب الذي كان حنوناً ورقيقاً للغاية مع أخوته.
لقد ارتبط زوجي الشهيد محمد هواش بالشهيد سيد قطب ارتباطاً استثنائياً، فقد عاشا معاً ما بين السجن ومستشفي السجن عشر سنوات كاملة قبل أن يعدما معاً عام 1966، ولم تكن مجرد زمالة سجن فقط بل زمالة أرواح واهتمام مشترك بالإسلام والمسلمين.
وللتاريخ أقول إن سيد قطب لم يكن متطرفاً أو متشدداً كما يصفه الكثيرون، فقد كنت أراه عندما كنا نذهب لزيارة زوجي الشهيد محمد هواش في مصحة ليمان طرة وكانا رفيقين بها، وكنت أذهب مع أمي ومعي سمية وأحمد، فكان الأستاذ سيد قطب يأخذ الأولاد ليتنزه بهم في حديقة المصحة ليترك لنا فرصة للحديث أنا زوجي، وكنت أشعر بأنه إنسان بسيط جداً ومتواضع، وهذا ما خرجت به من معرفة عشر سنوات متواصلة كانت مع زوجي الشهيد في سريرين متجاورين في المصحة.
وأذكر عندما خرج من المعتقل عام 1964 أنني ذهبت لزيارته ولم يكن زوجي محمد هواش قد خرج بعد من السجن، ودار بيننا حديث طويل كان فيه أنني سألته: لماذا لم يتزوج؟ فأخبرني أن والدته كانت قد أوصته - قبل وفاتها - بشقيقتيه أمينة وحميدة، وأكد لي أنه ما إن يطمئن عليهما ويزوجهما سيتزوج إن شاء الله، وقد زوجهما بالفعل، ولكنه لم يتزوج بسبب استشهاده.
وكنت قد رشحت له الأخت فاطمة عيسي التي تزوجت فيما بعد الأخ المهندس فوزي نجم والذي كان معتقلاً، وكانت الأخت فاطمة عيسي واحدة من عشر أخوات تزوجن من الإخوان أثناء اعتقالهم، وأذكر منهن الأخت أمينة قطب التي تزوجت من الأخ كمال السنانيري، والأخت مديحة بنت أخت الشهيد سيد قطب.
والسيدة فاطمة عبدالهادي شاهدة عصر بكل ماتعنيه الكلمة. فهي ممن شاركن في وضع اللبنات الأولي في بناء قسم الأخوات المسلمات: ذلك العالم الذي مازال بعد ثلاثة أرباع القرن مجهولاً في تاريخ الإخوان المسلمين والحركة الإسلامية عموماً.
وأهم ما يميز شهادتها النادرة أنها تقدم روايتها الخاصة جداً وهي تحكي عن أحداث ووقائع شكلت تاريخ الإخوان، بل مصر كلها في مرحلة تاريخية بالغة التعقيد، وتري علاقتها بأشخاص غيروا مسار التاريخ؛ بعضهم انتهي إلي الموت شنقاً وبعضهم صار رئيساً للجمهورية.
إنها رواية شاهد عيان وشاهد ملك أحياناً حين تشارك في الأحداث، وهي لا تلجأ كما فعل آخرون إلي التوسع والمبالغة وربما الخيال حتي وهي تحكي مأساتها الخاصة ومعاناتها وأسرتها الصغيرة؛ ابنتها وابنها الصغيرين اللذين عاشا محنة اعتقال الأم وسجن الأب سنوات طويلة ثم إعدامه.
ولدت لأسرة تقليدية تحمل سمات وطباع المجتمع المصري المسلم المتدين بالفطرة، كان أبي صعيدياً من مركز المراغة بمحافظة سوهاج في صعيد مصر، والصعيد هو موطن القيم والتقاليد المحافظة، وقد كان جدي لأبي ـ الشيخ إبراهيم ـ رجلا متدينا وكان صديقا حميما للشيخ محمد مصطفي المراغي شيخ الأزهر الشريف.
كان أبي يعمل موظفاً في وزارة الأوقاف، وكان يجلس معنا عصر كل يوم بعد الصلاة مباشرة ويحدد لنا حديثاً نبوياً من صحيح البخاري ويشرحه لنا ثم يكلفنا بحفظه وفهمه، ولكن للحق فلم يكن ذلك ليلامس شغف قلوبنا إذ كانت قراءة بلا تأمل أو تدبر ولم تكن لتنعكس علي سلوكنا، فلم أكن ـ مثلاً أرتدي الحجاب بل كنت مثل بنات جيلي نلبس ملابس قصيرة، وكان أقصي مانفعله أن نضع الايشارب عند أداء الصلاة، وإن كنا نحرص علي الالتزام بالأخلاق وعدم الابتذال.
ولدت في 27 من سبتمبر عام 1917، وكان مولدي في مركز التل الكبير التابع في ذلك الوقت لمحافظة الشرقية، حصلت علي الابتدائية ثم سافرت من التل الكبير للدراسة في مدينة الزقازيق، وبقيت عاما ونصف العام أعيش فيها بعيدة عن أهلي مع أختي الصغيرة، وكنت أدرس في مدرسة إعدادية اسمها «الراقية» لم أوفق في الشهادة الابتدائية في الزقازيق فانتقلت إلي القاهرة للدراسة قريباً من أهل أمي في حي السلطان أبوالعلا، ولم أشعر بالراحة كثيراً في الإقامة عند الأقارب رغم ترحيبهم بي وحفاوتهم فعدت بعد الاعدادية ودخلت مدرسة المعلمين وتخرجت فيها عام 1937.
تفوقت في دراستي بمدرسة المعلمات وحصلت علي الترتيب الأول في الدراسات النظرية ولكنني تراجعت إلي المرتبة الرابعة عشرة بسبب المواد العملية بالدراسة التي لم أكن مستعدة لها، ومازلت أذكر مادة التدبير النسوي التي كانت سبب تراجعي حيث طلب مني في الامتحان إعداد بسكويت بالنشادر إفطار لخمسة أفراد وكفتة سمك غداء لعشرة أفراد ولم أنجح فيها بسبب الوقت.
كان أخي سيد أبوالنور يدرس بإحدي المدارس الداخلية بحي شبرا ثم كلية الهندسة، وقد رفض وقتها أن يسكن عند أقارب والدتي المقيمين بالقاهرة، ولم يجد سكناً، وكنت وقتها أعمل بالتدريس في الاسماعيلية فاقترحت علي والدي أن أطلب نقلي إلي القاهرة لأكون قريبة من أخي وأراعيه أثناء دراسته علي أن يأتي أخواتي البنات فتقيم كل واحدة منهن معنا شهراً ، بل وأدخلت أختي الصغيرة كاميليا إلي المدرسة في القاهرة لتكون معنا.
انتقلت إلي القاهرة للعمل معلمة بمدرسة في حلمية الزيتون، وذات مرة وأثناء رجوعي من عملي قابلت في الترام سيدة كانت سبباً في تغيير مسار حياتي تماماً. ففي أثناء جلوسي في الترام التقيت بالأخت فاطمة البدري، وكانت تبدو عليها سمات الأخلاق والتدين فتقربت مني وتجاذبنا أطراف الحديث فحدثتني عن التدين والأخلاق والدعوة إلي الله والأخذ بيد الناس إلي طريق الحق.. وغيره من المعاني الجميلة ثم أعطتني ورقة كانت دعوة لحضور درس ديني، كان مكتوباً علي الورقة قول الله تعالي (قل هذه سبيلي أدعو إلي الله علي بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وماأنا من المشركين) وكان بها عنوان مكان الأخوات المسلمات في حي الناصرية.
انشرح صدري لهذه السيدة ولكلامها وارتحت لفكرة حضور هذا الدرس الديني ولما عرضتها بعد عودتي علي أخي سيد أبوالنور إذ به يشاركني الارتياح بل يشجعني علي الحضور ويطلب مني الانضمام إلي هؤلاء الأخوات.. وفيما بعد عرفت أن أخي أبوالنور كان قد أصبح من الإخوان المسلمين وكان قريباً من الأخ مصطفي مؤمن والاخ سعيد رمضان أبرز قيادات الحركة الطلابية من شباب الإخوان.
انتظرت بشوق موعد الدرس وكان أول درس أحضره في مقر الأخوات المسلمات في حي الناصرية للشيخ عبداللطيف الشعشاعي ـ رحمه الله ـ كان الرجل كفيفا وكانت تحضر معنا زوجته الأخت زينب، وكان عدد من يحضرن درسه يتراوح من سبع إلي ثماني أخوات، وكان ممن يحضرن الدرس اضافة للأخت زينب زوجة الشيخ الشعشاعي الأخت أمينة محمد زوجة الأستاذ محمود الجوهري الذي كان حلقة الوصل بين الأخوات والمرشد العام الشيخ حسن البنا، والأخت فاطمة البدري التي زوجناها فيما بعد لأحد الإخوة وكان يعمل محاميا وقد أعدم رحمه الله فيما بعد مع الشهيد الأخ عبدالقادر عودة في أول صدام مع الثورة، وكان مسئولا عن محمود عبداللطيف الذي اتهم في محاولة اغتيال جمال عبدالناصر في حادثة المنشية، والأخت فاطمة توفيق، والأخت فاطمة حسين من العباسية.
كان الدرس يبدأ بعد العصر، فكنا نجلس علي مقاعد خشبية نستمع إلي الدروس حتي آذان المغرب فنقوم للصلاة، وكان أخي أبوالنور قد طلب مني قبل الذهاب للدرس أن أستعير «إيشارباً» من الجيران حتي أرتديه عند ذهابي فوضعته في حقيبة يدي ونسيته، فلما أقيمت الصلاة قالت لي الأخت أمينة محمد «أمينة الجوهري»: كيف ستقومين للصلاة وتقفين بين يدي الله بهذا الشعر المكشوف وهذه الأرجل العارية؟!
تلك كانت الأخت أمينة محمد وشهرتها «أمينة الجوهري» نسبة إلي زوجها، فما كان مني إلا أن وضعت «الايشارب» فوق رأسي ووقفت أصلي بملابسي القصيرة التي كانت تعلو الركبة كموضة هذه الأيام.
أخت في قسم الأخوات المسلمات
كان هذا في عام 1942 تقريباً، ولم يكن عمري قد جاوز الخامسة والعشرين، وكان هذا اللقاء أول علاقة لي بالأخوات المسلمات، وكان سبباً في أن شرح الله صدري لهن، فعند عودتي إلي المنزل سألني أخي أبوالنور عن رأيي في الدرس وفي الأخوات، فقلت له إنه ورغم أن المكان كان بسيطاً ومتواضعاً ولم يكن مهيئاً للدرس إلا أن الجلسة كانت مريحة وانشرح صدري لها، وعقدت مقارنة بين هذه الجلسة وجلستنا في السينما فشعرت كم كانت جلسة طيبة. فسعد أخي واستبشر وحمد الله.. وحتي حين أبديت عدم رضائي عن بعض الأمور في اللقاء وعدم اقتناعي بها قال لي إن الاسلام ليس ملكًا لأحد بل لكل المسلمين، وهم جميعاً مسئولون عنه امام الله، وطلب مني إذا رأيت شيئاً لا أرتضيه أن أعمل علي إصلاحه أو تغييره وألا أخشي من ذلك.
بدأت أنتظم في حضور هذا الدرس وبدأت علاقتي توثق بالأخوات المسلمات وصار الإقبال يزيد يوماً بعد يوم لذلك فكرنا في الانتقال لمكان آخر غير مقرنا في حي الناصرية، واستقر رأينا وقتها علي حي المنيرة، فقد وجدنا مكاناً مناسباً عبارة عن منزل واسع من دورين لأحد الباشو اتلم تتبق من أسرته إلا ابنه وحيدة علي قيد الحياة، سكنت هذه الابنة الدور العلوي من البيت وتركت لنا الدور الأسفل، وكان عبارة عن شقة كبيرة أسفلها «بدروم» كبير وفناء واسع كانت من الاتساع بحيث قمنا بإعادة تنظيمها بحيث تضم حديقة ومصلي كبيرا وسكناً للخفير وأعشاشا للدجاج، أما بقية المنزل فأصبح دارا لنا «الأخوات المسلمات»، بل لقد فكرنا وقتها في أن ننشئ فيه مدرسة ودارا للأيتام استغلالا للحجرات الكثيرة.
حين قررنا الانتقال عرضنا الأمر علي مسئول الأخوات الأستاذ محمود الجوهري وأخذنا بتوجيهاته، ونشط العمل بين النساء وزاد عدد الأخوات وعدد المترددات علي دروسنا ثم توسع نشاطنا فأقمنا مدرسة أسميناها «دار التربية الإسلامية للفتاة» بشارع بستان الفاضل بالمنيرة وخصصناها للفتيات اليتيمات.
كان عددنا ست أخوات كما أسلفت: أمينة الجوهري وفاطمة توفيق وفاطمة البدري وزينب زوجة الشيخ الشعشاعي وأخت الأخ محمود سعيد وأنا، وفاطمة عبدالهادي، وصرنا فيما بعد نواة قسم الأخوات المسلمات، وأول من بدأن العمل النسوي المنظم في الجماعة. قبلنا بسنوات كان هناك تجمع للأخوات المسلمات لم نلحق به، وكانت رائدته الحاجة لبيبة أحمد رحمها الله، ولكنه لم يكن جزءا من تنظيم الإخوان بل كان تعاونا بينها وبين الشيخ البنا، أما تجمعنا نحن فكان تابعا مباشرة وبشكل منظم للإخوان وكان مسئولا عنه الأستاذ محمود الجوهري ويتابعه مباشرة المرشد العام الشيخ حسن البنا.
وللتاريخ أيضا أقول إن الأخت زينب الغزالي كان لها نشاط في الدعوة الاسلامية بين السيدات. لكنه كان مستقلا عن جماعة الإخوان، ولم تنضم إليها إلا متأخرا بعد وفاة الشيخ حسن البنا، وأذكر أثناء دخولي الإخوان سنة 1942 أن الأخت زينب كانت أسست جماعة السيدات المسلمات، وكان لها نشاط كبير فقلت وقتها للشيخ حسن البنا: لماذا هناك انقسام في الدعوة؟ ولماذا لا تنضم إلينا الأخت زينب الغزالي؟ فقال لي: والله يا أخت فاطمة نحن عرضنا عليها ذلك، وعرضنا أن تكون مسئولة قسم الأخوات لكنها اشترطت أن نطلق عليه «السيدات المسلمات»، فقلنا لها نحن الإخوان المسلمون وستظل الجماعة كما هي، وسيكون هناك قسم للأخوات أنت رئيسته أو المسئولة عنه فرفضت،ولم تلحق بالجماعة إلا عام 1965.
لم يمض علينا كثير من الوقت حتي توسعت اهتماماتنا الدعوية، وصممنا وقتها ألا نكتفي بحضور حلقات الدرس فقط،بل رأينا أن تكون لنا نشاطات أخري، فكنا نذهب يوم الجمعة للشيخ حسن البنا في دار الإخوان المسلمين، وكنا نحضر درسا خاصا بنا يلقيه علينا الشيخ حسن البنا بنفسه، وكان الرجل نموذجاً في الخلق والحياء إذ كان يجلس أمامنا منحنياً مطأطئ الرأس لا ينظر إلي وجوهنا.
في هذه الفترة انضمت إلينا حكيمة «ممرضة» اسمها الحاجة زبيدة، وكنت تعطينا بعد درس الشيخ حسن البنا درسا في التمريض، ثم نذهب بعدها لمنزل الأخ محمود الجوهري فيأتي إلينا الشيخ سيد سابق ليعلمنا قراءة القرآن قراءة صحيحة.
وقد استحوذت علي إعجابي في هذه الفترة فتاة اسمها محاسن حمودة، كانت طالبة بالصف الثاني الثانوي بمدرسة المنيرة، فاستأذنت فضلية الشيخ في أن تحضر منا، خاصة أنها تتمتع بالنبوغ والذكاء والاجتهاد في الدعوة، فأجاب بالموافقة فانضمت إلينا، وكنت قد سعيت في زواجها فيما بعد فزوجتها الأخ فؤاد الخطيب ابن سفير السعودية في الهند وقتها، وقد أصبح هو الآخر سفيرا فيما بعد، وقد توفيت قبل أعوام رحمها الله.
كانت تأتي معنا أحيانا وفاء بنت المرشد حسن البنا، وكان قد طلب مني أن أضمها، أما زوجته فكانت تمكث في المنزل ترعي أبناءها، ولم يكن لها أي نشاط دعوي، بل لا أكاد أتذكر اسمها وربما لم أعرفه أصلا، وإن كانت سيدة فاضلة من أسرة كريمة ومتدينة.
مع آمال العشماوي ونساء بيت الهضيبي
بدأنا العمل في الدار الجديدة، كما نشطنا أيضاً في المدرسة التي خصصناها للفتيات اليتيمات وكنا نقدم فيها الرعاية الكاملة لهن ولأسرهن، وأذكر أنه في عام 1948 وبعد عودة المرشد الشيخ البنا من الحج أننا ذهبنا نزوره في منزله نحن الأخوات الست المشرفات علي العمل بين النساء فقال لنا: سنضم إليكن عضوة جديدة اسمها آمال العشماوي ابنة العشماوي باشا وزير المعارف، فأوصيكن بها خيراً وأذكر أنني سألته أثناء هذه الجلسة عما كنا سمعناه من قرار حل الجماعة فكان أن رد بسخرية وقلق: فليحلوها! فقلت مندهشة: وكيف؟! فاستمر قائلاً: وهل سيغلقون الشُّعَب؟ فليغلقوها وهل سيصادرون المصاحف؟ فليصادروها! كل ذلك وأنا مندهشة فسألته: وماذا يتبقي لنا؟ فقال: يا أخت فاطمة.. إنهم لن يمحو الإيمان من القلوب.
بعد هذه الجلسة التحقت بنا الأخت آمال العشماوي فأحدثت نقله هائلة في العمل الدعوي، بما كانت تتحلي به من أخلاق وقدرات فريدة إضافة إلي ما أتاحه لها وضعها الاجتماعي المتميز.
لقد كانت الأخت آمال العشماوي من خيرة الأخوات اللائي دخلن الدعوة، توثقت علاقتنا منذ أن التحقت بنا في عملنا في الدار الجديدة بحي المنيرة، وصرنا لا تتحرك واحدة منا إلا بصحبة الأخري، وقد كانت رحمها الله ذات خلق رفيع وتواضع جم، ولما دخل الإخوان السجون عام 1954 كانت من أكثرنا نشاطا في جمع الأموال والتبرعات لأجل أسر الإخوان المعتقلين، ولهذا فقد كانت علي رأس المعتقلات في محنة عام 1965، لكنها كانت نعم الأخت الصابرة المحتسبة، وقد اعتنت بي كثيراً لما أصابني النزيف في المعتقل، وكانت تدعو لي بالشفاء، وهي التي قادت احتجاج الأخوات علي استمرار اعتقالي وأنا أنزف، وأجبرن الضباط علي ضرورة نقلي إلي مستشفي قصر العيني، وودعتني باكية: مع السلامة يافاطمة.. إن شاء الله ربنا سيشفيك وكانت دائماً ماتخفف عني وعن الأخوات المعتقلات.
ومما أذكره لها أيضاً في السجن أن الطعام كان سيئاً وعافته بعض الاخوات، وكن يبكين من الجوع حتي ان الأخت سنية الوشاحي أصيبت بهبوط من قلة الطعام، وكان الطعام يأتي إلينا في جردلين، في كل منهما فول نابت وقد غطي بقشر البصل وبعض الماء وبلا ملاعق، فكانت الأستاذة آمال العشماوي وهي ابنة القصور وسليلة الباشوات تخفف عنا وتشجعنا علي الأكل فتأكل هذا الطعام الرديء باستمتاع: الله كله من خيرك يارب.
الزواج من يوسف هواش والتعرف بسيد قطب
تأخر زواجي بالنظر إلي سن الزواج في هذه الفترة، والحق أنني كنت غارقة في أعباء أسرتي الصغيرة، وكنت شديدة الحرص علي أن أطمئن أولاً علي زواج أخواتي البنات، وذات مرة وكنت قد قاربت الخامسة والثلاثين من العمر جاءني أخي سيد أبوالنور، وقال لي إن الأستاذ محمود الجوهري المسئول عن قسم الأخوات المسلمات في الجماعة قد أخبره برغبة أحد الاخوة في الزواج مني، فسألت أخي عن مؤهلاته فقال إنه يحمل شهادة متوسطة، دبلوم صنايع، فما كان مني إلا أن رفضت، فرد أخي قائلاً: أنت ليس معك إلا شهادة كفاءة المعلمات! فقلت له: ولكنني بعد انضمامي إلي الأخوات أصبحت شيئاً آخر! فقال لي: هو أيضاً مثلك من الإخوان! ثم بدأ يقص عليّ حكايته حتي أطمئن إليه، وأخبرني أنه تعرف علي هذا الأخ الذي يطلب يدي من خلال الأسرة التي ينتمي إليها في الجماعة والتي كانت تضم معه الأخ الدكتور أحمد الملط والحاج راضي سلايمة - وهو فلسطيني كان يمتلك محل بقالة كبيراً «سوبر ماركت» - وقال لي: إننا وأثناء تعرفي علي أفراد الأسرة كان من بينهم رجل وسيم جميل الخلق ومهذب فقلت في نفسي إن أختي فاطمة وبعد طول صبرها معي تستحق أن تتزوج من رجل كهذا.. ثم إذا به يتقدم لك.. وسألني أخي: ما رأيك؟ فوافقت دون أن أراه! وكان هذا الأخ هو محمد يوسف هواش الشهيد الذي أعدم مع الأستاذ سيد قطب في عام 1965، رحمة الله عليهما وعلي جميع شهداء الإخوان.
كان محمد يوسف هواش من أسرة كريمة وطيبة ينتهي نسبها للخزرج، وكانت أسرته ميسورة الحال تعيش وتعمل في الزراعة في قرية كفر الحمام في مركز بسيون بمحافظة الغربية، ثم انتقلت الأسرة إلي كفر الدوار بمحافظة البحيرة، وكان له من الاخوة ستة ذكور هو أكبرهم جميعاً، ويليه بالترتيب أحمد وعبدالحميد ورمضان وبسيوني والسيد وعبدالفتاح، وكانت له أخت وحيدة.
حين تقدم محمد يوسف للزواج مني كان أصغر مني بخمس سنوات تقريباً، حيث إنه من مواليد 21 أكتوبر عام 1922، وكان حاصلاً علي شهادة دبلوم المدارس الثانوية عام 1943 قبل أن ينتقل للقاهرة ويعمل بمصانع الشبراويشي للعطور في حي مصر القديمة.
وقد خطبني محمد يوسف هواش من أخي سيد أبوالنور مدة سنة دون أن أراه! وكان كلما قابل أخي في درس الثلاثاء يقول له: مازلنا علي عهدنا، وكان السبب في تأخيره للزواج كما علمت لاحقاً هو وجود نزاع بين عائلته وعائلة عمدة بلدتهم، فكان لا يريد إتمام الزواج إلا بعد أن يفض هذا الخلاف.
وقد أصابني الضيق من طول الخطبة دون أي تقدم في الارتباط بل ودون أن أراه فقلت لأخي ساخرة وغاضبة ذات يوم: قل لصاحب عهدنا أن يفض عهدنا!! وقد كان فأبلغه بقراري فض الخطوبة أو العهد، ولكن بعد سفري إلي أهلنا في التل الكبير وصلتنا برقية من أخي سيد يقول فيها: احضري فوراً فعقد قرانك يوم الأحد!
تعجب والدي من برقية أخي وسألني ما العمل؟ فقلت له لنسافر! وفعلاً قام والدي بعمل إجازة وسافرنا إلي القاهرة، وتم عقد القران والذي اكتفي فيه محمد يوسف هواش بحضور أحد أعمامه الذي كان يعمل موجهاً بوزارة التعليم.. كل ذلك ولم أكن قد رأيته بعد! فقط كنت أثناء خطوبتنا قد سألت حكيمة اسمها «كوكب» كانت تحضر بعض دروس الأخوات التي كان يلقيها عليهن محمد يوسف هواش أن تصفه لي فأثنت عليه خيراًً.
ويوم عقد القران جاء الشيخ عبداللطيف الشعشاعي في شعبة الإخوان بالمنيل وكان مرتدياً عباءة وأخذ ينشد ونحن نردد وراءه: «أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم»، ثم قال لمحمد هواش: تفضل يا عريس، وكانت هذه أول مرة أراه فيها.. فجلسنا في صالون المنزل ودار بيننا حديث قصير أخبرني فيه أنه رآني مرتين قبل أن يخطبني!
كانت المرة الأولي التي رآني فيها عندما أراد البوليس القبض علي الأخوين سعيد رمضان ومصطفي مؤمن ووقع الاختيار علي منزلنا ببات الخلق ليختبئا فيه حيث كان يتبع الأوقاف وكان ذا حديقة كبيرة، ساعتها طلب مني أخي سيد أن أذهب مع إخوتي إلي شعبة الإخوان بالجيزة بعد أن نأخذ ما يلزمنا من الملابس لمدة أسبوع ونأخذ معنا مفتاح شقة الأخ مصطفي كامل بالجيزة لنقيم فيها لأنه كان مسافراً إلي بلدتهم في الإجازة علي أن يختبئ الأخوان سعيد رمضان ومصطفي مؤمن في بيتنا.
وذكرني محمد هواش أنه الذي كان في استقبالنا عند وصولنا إلي شقة الجيزة وأنه سألني ساعتها: كيف أحوالكم؟ فقلت له بل كيف حالكم أنتم؟ وقال لي إنه أعجب بي وقتها بسبب هذا الرد الذي يبين اهتمامي بالدعوة.. وتذكرت ساعتها أننا كنا طوال الأسبوع الذي قضيناه في هذه الشقة نكتب ورقة بما نحتاجه ونضعها مع النقود أمام الباب ليقوم هو بإحضار كل ما نحتاجه.
أما المرة الثانية التي قال إنه رآني فيها فكانت عندما كنت مشرفة علي رحلة المدرسة إلي مصانع الشبراويشي وقام العاملون بإهداء التلاميذ بعض العطور والهدايا، وطلب مني أن أكتب كلمة شكر في سجل التشريفات بالمصنع، وقد وقّعت في نهايتها باسمي «فاطمة محمد عبدالهادي»، وعندما هممنا بركوب السيارة عائدين إذا بأحد العاملين ينادي بأن هناك مكالمة تليفونية لفاطمة محمد عبدالهادي! فتعجبت من ذلك إذ لا أحد يعرف بوجودي في الرحلة! فذهبت ومعي زميلاتي وإذا بشاب يعطيني سماعة الهاتف وكانت علي الطرف الآخر الحكيمة «كوكب» تقول إنها تريد أن تنشئ شعبة للأخوات في المستشفي، فاستغربت لها كيف عرفت بوجودي في الرحلة، لأعرف بعد ذلك من محمد هواش أنه هو نفسه كان الشاب الذي أعطاني سماعة التليفون، ولم يكن من العسير أن استنتج أنه هو من اتصل بـ«كوكب» وطلب منها أن تكلمني لأعود ويستطيع رؤيتي بوضوح وتأن.
وبعد عقد القران حدثت لنا بعض المشاكل حيث تصادف أن قام محمد هواش - وقد كان يعمل رئيساً لمكتب الشحن في مصانع الشبراويشي - بتأسيس اتحاد للعمال للدفاع عن حقوق العاملين، فطلبوا منه حل هذا الاتحاد فرفض.. فقاموا بفصله.
كان زوجي محمد يوسف هواش لا هم له إلا الدعوة التي ينفق لها كل وقته ويضحي لها بالغالي والنفيس، وقد أتعبني كثيراً في بداية زواجنا بسبب أنه لم يكن يري أو يفكر أو يعمل إلا للدعوة، أتاني ذات مرة وكنا عروسين جديدين لم يمض علي زواجنا إلا القليل، وقال لي إن بنات أحد الإخوان يعانين حالة نفسية سيئة بسبب سجن أبيهن وطلب مني أن أحضرهن للبقاء في بيتنا عدة أيام حتي تهدأ نفوسهن! فاستفزني أن لم يراع أنني مازلت عروساً جديدة، فقلت له بتهكم: لا مانع ولكن لنكتب علي باب البيت يافطة «عيادة نفسية»!! وكانت تلك الكلمة كفيلة بأن يحزن كثيراً ويخاصمني عليها أسبوعاً كاملاً!
أيضاً كان هناك فتي صغير بحي مصر القديمة يتولي محمد هواش أمره وينفق علي تربيته، وكان يعامله كما لو كان ابننا، فما أن نجلس لنتناول طعام الغداء حتي يدق جرس الباب فأقوم لأفتح فيدخل الفتي ويجلس مكاني وأنتقل أنا لتناول الغداء في المطبخ! حتي إن الشغالة التي كانت تعمل عندنا اعتادت الأمر فكانت تطلب مني أن آخذ معي طبقي في المطبخ! وللحق فقد أزعجني ذلك كثيراً، وكنت عروساً تريد أن تعيش وتتمتع بخصوصياتها فطلبت منه ذات مرة ألا يأتي الفتي كل يوم وقت الظهر حتي أستطيع الغداء معه وحدنا فما كان منه إلا أن غضب بشدة وسألني مستنكراً: ألست مسلمة؟! إن هذا شاب يتيم أربيه لله.
كان يوسف هواش يقضي يومه كاملاً في العمل مع الإخوان فلا يأتي إلي البيت إلا متأخراً ربما في الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل، وكان يأتي بصحبة الأخ كمال السنانيري الذي كان يسكن بجوارنا، وكانت تجمعهما علاقة وطيدة ومحبة - رحمة الله عليهما - وكان يشفق عليّ من السهر في انتظار عودته فكان يطلب مني أن أترك له الطعام علي المائدة ثم أنام علي أن يتناول هو العشاء عند عودته من دون أن يوقظني، وكان هذا يضايقني فكنت أقول له: لا يمكن أن تهجر البيت من أجل الإخوان.
لقد كان الشهيد محمد هواش رجل دعوة نذر لها كل حياته تقريباً، فكان شديداً في معاملته معي ربما بحكم نشأته الريفية التي أثرت علي نظرته للمرأة، فكان يري أنها يجب أن تنفذ ما تؤمر به دون نقاش، ولكن لما كنت كثيرة النقاش وأحياناً الاختلاف معه كان يقابل ذلك بغضب وحزن، وكان يقارن بيني وبين والدته في معاملتها لوالده، لقد كان يري في والدته المثال للمرأة المسلمة التي تطيع زوجها وتأتمر بأمره، حتي إنه غضب ذات مرة لخروجي لأداء واجب العزاء في إحدي الاخوات - وكانت شقيقة زوجة أخي - دون انتظار إذنه علي الرغم من صلة القرابة التي تجمعني بها، وعلي الرغم من أنه لم يكن موجوداً وقت الوفاة ليأذن لي!
ولكن للحق فقد تغيرت معاملته تماماً لي بعد خروجه من المعتقل عام 1964، فقد شعر بمقدار ما عانيناه في غيابه وتضحياتنا من أجله، ورأي كيف كنت أقوم بخدمة الدعوة بإخلاص وتفان ولا أشكو المعاناة التي استمرت قرابة عشر سنوات، فكان بعد خروجه من السجن إذا رآني مهمومة أو متعبة يحاول أن يخفف عني ويواسيني، وكان يحنو عليّ ويأخذني كالطفلة علي صدره ويقول لي: هذه الرأس التي ضحت صاحبتها وعملت كل هذا من أجلي لا توضع علي الوسادة بل مكانها ذراعي.. وكان يطلب مني أن أسامحه علي شدته معي في أول زواجنا، وكان يقول لي كثيراً إنه لم يكن يعرف حقيقة معدني إلا بعدما رأي تضحياتي معه وعملي من أجل الدعوة.
والحق أيضاً أنه تأثر في ذلك بالأستاذ سيد قطب خاصة في الفترة التي صاحبه فيها في مستشفي سجن طرة حين اطلع علي طريقته الراقية في التعامل مع أخواته البنات اللائي كن يأتين لزيارته في المستشفي، ويبدو أنه تغير تماماً في نظرته للمرأة وتعامله معها بفعل الأستاذ سيد قطب الذي كان حنوناً ورقيقاً للغاية مع أخوته.
لقد ارتبط زوجي الشهيد محمد هواش بالشهيد سيد قطب ارتباطاً استثنائياً، فقد عاشا معاً ما بين السجن ومستشفي السجن عشر سنوات كاملة قبل أن يعدما معاً عام 1966، ولم تكن مجرد زمالة سجن فقط بل زمالة أرواح واهتمام مشترك بالإسلام والمسلمين.
وللتاريخ أقول إن سيد قطب لم يكن متطرفاً أو متشدداً كما يصفه الكثيرون، فقد كنت أراه عندما كنا نذهب لزيارة زوجي الشهيد محمد هواش في مصحة ليمان طرة وكانا رفيقين بها، وكنت أذهب مع أمي ومعي سمية وأحمد، فكان الأستاذ سيد قطب يأخذ الأولاد ليتنزه بهم في حديقة المصحة ليترك لنا فرصة للحديث أنا زوجي، وكنت أشعر بأنه إنسان بسيط جداً ومتواضع، وهذا ما خرجت به من معرفة عشر سنوات متواصلة كانت مع زوجي الشهيد في سريرين متجاورين في المصحة.
وأذكر عندما خرج من المعتقل عام 1964 أنني ذهبت لزيارته ولم يكن زوجي محمد هواش قد خرج بعد من السجن، ودار بيننا حديث طويل كان فيه أنني سألته: لماذا لم يتزوج؟ فأخبرني أن والدته كانت قد أوصته - قبل وفاتها - بشقيقتيه أمينة وحميدة، وأكد لي أنه ما إن يطمئن عليهما ويزوجهما سيتزوج إن شاء الله، وقد زوجهما بالفعل، ولكنه لم يتزوج بسبب استشهاده.
وكنت قد رشحت له الأخت فاطمة عيسي التي تزوجت فيما بعد الأخ المهندس فوزي نجم والذي كان معتقلاً، وكانت الأخت فاطمة عيسي واحدة من عشر أخوات تزوجن من الإخوان أثناء اعتقالهم، وأذكر منهن الأخت أمينة قطب التي تزوجت من الأخ كمال السنانيري، والأخت مديحة بنت أخت الشهيد سيد قطب.