د. محمد جاد الزغبي يكتب.. ترامب من علامات الساعة (الأمريكية)

د. محمد جاد الزغبي
د. محمد جاد الزغبي

في الفصل الأخير من كتابنا (كيف نفهم ما حدث في سوريا)، وضعت تصورا لطريقة دونالد ترامب في تعامله مع مفهوم (الأمن القومي الأمريكي) أو ما يسمى عادة بضروريات الإمبراطورية وثوابتها وضربت لذلك مثالا بسياسته في قضية غزة وقضية أوكرانيا.

دونالد ترامب 


وملخص الفكرة أن ترامب لا يمثل التطرف الأمريكي المعتاد ولا يعبر عن سياسة العصا الغليظة التي عهدناها في رؤساء الحزب الجمهوري، فالرجل خارج إطار التصنيفات حتى تصنيف (التطرف) نفسه!


فالرجل لا يعنيه من مفاهيم (ضرورة الإمبراطورية) شيء قط، بل ربما لا يعلم بها من الأصل، ويتعامل مع منهج الحكم الأمريكي بطريقة جديدة لم تمر من قبل على السياسة الأمريكية ومؤسساتها التي كانت دوما تتدخل للحفاظ على ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية وتحفظها من (شطحات) أي رئيس يحاول تجاوزها.

لكن مع تخلخل قبضة المؤسسات الأمريكية بفعل الانهيار التدريجي الذي تعانيه السياسة الأمريكية منذ انسحابها من العراق، فضلا على قضية الدين التراكمي الهائل، كل هذا منح ترامب الفرصة ليكون أول نموذج من رؤساء العالم الثالث يحكم الدولة الأمريكية!
فالرجل يتكلم وحده، ويحكم وحده، ويتصرف وحده، والأنكى من هذا أنه يطلق التصريحات عفو الخاطر، بمعنى أنه يقول ما يرد على ذهنه ولعل هذا هو سر تراجعاته الكثيرة عن تصريحاته العنترية حيث يطلق التصريح ثم ينفيه في اليوم التالي وقد يعود لنفس التصريح بعد أسبوع!

دونالد ترامب 


هذه الفوضى وعدم الانضباط شيء جديد على واقع السياسة الأمريكية حيث يتحكم فريق كامل من الإدارة الرياسية في كل كلمة أو حرف أو حتى حركة جسد يؤديها الرئيس الأمريكي أمام الإعلام، بل ومعروف أن أي خطاب رياسي تتم كتابته ومراجعته وتدريب الرئيس على كيفية إلقائه عدة مرات قبل خروجه للعلن.
وكل هذا خارج ممارسات ترامب نهائيا.
بل وصل الأمر إلى حد العته الحقيقي في أسلوب رجال إدارته معه، ومن ذلك ما ذكره (مايكل وولف) في كتابه الشهير (نار وغضب) والذي وضع فيه أسلوب ترامب الرياسي المزعج ولأن وولف كان مديرا لمكتبه فقد حكى كيف أنه لجأ إلى إخفاء بعض أوراق ترامب الرياسية التي كان ينوي توقيعها وتحتوي على تصرفات كارثية!
والمثير أن ترامب لم يكن يسأل عن تلك الأوراق أو يتذكرها!

بوب وودورد


وزاد الأمر فداحة بالتفاصيل الجسيمة التي أوردها (بوب وودورد) في كتابه (خوف – ترامب في البيت الأبيض) والذي احتوى على عشرات الشهادات الموثقة –على عادة وودورد- تشرح وجهة نظر كبار السياسيين في ترامب.
ليس فقط من ناحية خصومه بل حتى من ناحية حزبه نفسه ورجال إدارته الأولى.

ومن اللافت للنظر أن ترامب في فترته الأولى –رغم كل ما فيها- كان أكثر تعقلا بكثير من شخصيته في الفترة الحالية.

إيلون ماسك


فقد كان رجال إدارته الأولى على مستوى معقول من الكفاءة المعهودة، لكن الفترة الحالية التي يسيطر فيها (إيلون ماسك) على الإدارة تختلف تماما، حيث تميزت بإدارة روتينية وظيفية على غرار رجال الإدارة القابعين في قصور الحكم بالعالم الثالث!

توماس فريدمان


أي أنهم مجرد سكرتارية رغبات لا أكثر على حد وصف (توماس فريدمان) الكاتب الأمريكي المتطرف المعروف.
ففي مقاله الأخير عن ترامب، بادر فريدمان لشرح الكارثة التي يراها مجتمع النخبة في ترامب وإدارته.


وذكر بوضوح أنها إدارة (بصمجية) إذا صح التعبير لا هَمّ لهم إلا تلافي غضب ترامب والعمل على تحقيق رغباته مهما كانت واضحة الغباء!
ويحيل فريدمان سبب هذا كله إلى عقلية معاونه (إيلون ماسك) الذي يناصر جنون ترامب باستخدام موقع (إكس) الشهير وتغريداته المناصرة لسياسة ترامب.
وهذا دليل إضافي على أن ترامب يتعامل بسياسة الشرق الأوسط التقليدية من حشد اللجان الإليكترونية التي تتيم بالغوغائية الشديدة لترهيب أي معارضة
والواقع أن مقال (توماس فريدمان) يؤكد على عدة نقاط بالغة الأهمية:
أولا:
أن المقال يأتي من كاتب متطرف مثل توماس فريدمان بكل تاريخه العنصري وهذا يثبت دون شك أن هناك فارق ضخم بين العنصرية الأمريكية التي يمثلها الجمهوريون عادة وبين الجنون الذي يمثله ترامب والذي لا يمكن وصفه حتى بالتطرف لأنه خارج إطار العقل السياسي الأمريكي وخارج مفاهيم السياسة عموما
ثانيا:
يؤكد فريدمان في مقاله أن مجتمع النخبة الأمريكي له موقف طبيعي من ترامب وهو الرفض الكامل لعقليته بعكس الجمهور الذي بات واضحا أنه يؤيده بطريقته الغوغائية التي سمحت لأصوات العوام بأن تكون هي الأعلى بعكس العهود السابقة التي كانت الجماهير فيها تستسلم لنظرية الإمبراطورية التي يقودها كبار ساساتهم

الشعب الأمريكي 


فالشعب الأمريكي الآن -فيما يبدو- فقد الإيمان بضرورة الإمبراطورية في ظل أزمة اقتصادية خانقة وديون هائلة تمثلها أعباء الإمبراطورية كما سماها أستاذنا الراحل هيكل وهم الآن ليسوا على استعداد لتحمل تلك الأعباء لمجرد الحفاظ على هيمنة السياسة الأمريكية في العالم

توماس فريدمان


ثالثا:
توماس فريدمان هو صوت معبر عن النخبة الأمريكية التي ترى في ترامب علامة من علامات قيام الساعة الأمريكية وهي نفس النظرة التي ينظر بها الإسرائيليون لنتنياهو من أنه سيكون علامة من علامات قرب نهاية إسرائيل وهو الأمر الذي يتضح في مواقف بعض كبار الساسة الإسرائيليين مثل باراك وكارمي جيلون وعدد من القيادات العسكرية السابقة عندهم

بناء على ذلك.
فإن سياسة ترامب بعقليته الاقتصادية الضيقة التي تتعامل مع الأمور بشكل مادي بحت، لا ينبغي التعامل معها على أنها عقلية سياسية تضع في أبجدياتها المقاييس التقليدية التي تحافظ على النفوذ الأمريكي السياسي والمعنوي.
فالرجل لا يؤمن إلا بالقدرة الاقتصادية إيجابا وسلبا ولا يحركه إلا المكسب والخسارة، وبالتالي فهو على استعداد لهتك عرض الأمن القومي الأمريكي إذا رأى في ذلك مكسبا اقتصاديا كبيرا، كما أنه على استعداد للتنازل والتراجع بلا حدود إذا استشعر خطرا فعليا على تلك المكاسب.


وإدراك تلك الحقيقة هو الذي ينبغي أن يحكم السياسة العربية تجاهه إن أرادت الدول العربية حقا إيقاف حالة الاستخفاف المزرية التي يتعامل بها ترامب مع قضايا المنطقة
فإظهار القوة والإصرار –مجرد الإظهار- والتلويح بأي أوراق ضغط تمثل خطورة على السياسة الأمريكية أو تقليل نفوذها في الشرق الأوسط هو الأمر الوحيد الذي سيجعل ترامب ينظر بجدية أكثر تجاه الشرق الأوسط وحكوماته.

اقرأ أيضًا: 

د.محمد جاد الزغبي يكتب.. كيف نفهم (طوفان الأقصى) ..الهدف والتوقيت والقرار
 

محمد جاد الزغبى

كيف نفهم إسرائيل من الداخل؟!
 

 

تم نسخ الرابط