باب المندب يشتعل .. هل تفجر هجمات الحوثيون صراعًا دوليًا في البحر الأحمر؟
تصعيد جديد يدفع باتجاه نشوب حرب موسعة إقليميًا على خلفية إعلان المتحدث العسكري الحوثي، العميد يحيى سريع، عن عملية استهداف سفينة "CMA CGM TAGE" المتجهة لإسرائيل، بعد رفض طاقم السفينة الاستجابة لتحذيرات الجماعة، وفقًا للمتحدث.
وحولت الهجمات الحوثية أنظار العالم إزاء رد الفعل الدولي على هذا التصعيد، خاصة مع إعلان الحوثيون استمرار العمليات لمنع مرورِ السُّفُنِ الإسرائيليةِ كافة، أوِ المتجهة إلى موانئ فلسطين المحتلة، مع حرصها الكامل على حركة الملاحة البحرية إلى كلِّ الوجهات باستثناء الكيان الإسرائيلي.
عدد العمليات الحوثية
نفذ الحوثيون نحو 24 هجومًا على مختلف الأهداف في الأراضي الفلسطينية المحتلة ومناطق البحر الأحمر؛ بينما يشير البعض إلى أن عدد الهجمات قد بلغ 20 أو 21 فقط، ويرجعون ذلك إلى عدم وضوح الصورة في الأيام الأولى من التصعيد، حيث لم يكن الانتباه الدولي والإعلامي موجهًا بشكل كامل نحو تبني العمليات ونطاقها.
نفذت الجماعة الهجمات على مدى 66 يومًا تقريبًا، بمتوسط يبلغ حوالي 11 هجومًا في الشهر، ما يعادل 2.8 هجوم في الأسبوع، أي هجوم كل ثلاثة أيام تقريبًا. يشير هذا إلى تصاعد وتكثيف النشاط الحوثي خلال الفترة المذكورة.
تتناول العمليات في شهري نوفمبر وديسمبر نفس العدد تقريبًا، ولكن يبرز الاختلاف في التطور النوعي والتحول في شهر ديسمبر، حيث شهد زيادة في الهجمات ذات الطابع النوعي. كما أن شهر ديسمبر شهد تركيزًا إعلاميًا أكبر وصدى أكثر حول هذه العمليات، مما يجعله أكثر تأثيراً وانعكاساً على الساحة الدولية.
حجم ونوع العمليات
بدأت العمليات الحوثية بشكل تقليدي من خلال إطلاق صاروخين على الجانب الإسرائيلي، لكن سرعان ما تطورت لتشمل استهداف السفن، وتحولت الاستراتيجية إلى مسألة أكبر، حيث بدأ الحوثيون يسعون للسيطرة على السفن واحتجازها.
تشكلت نقطة تحول كبيرة في العمليات الحوثية عندما سيطروا على سفينة نرويجية، وأصبحت هذه الحادثة مفتاحًا لتحول جذري. تميزت العملية بالإخراج السينمائي البارع والتوظيف الفعّال للوسائط الإعلامية، مما أضفى عليها مزيدًا من الاحترافية والقدرة على التحكم في التصاعد الإعلامي المحيط بها.
طبيعة وتطور الأهداف
شهدت الهجمات الحوثية تطورًا كبيرًا في أهدافها ونطاقها خلال فترات المواجهة والتصعيد، حيث انطلقت هذه العمليات باستهداف الكيان المحتل؛ بهدف زيادة الضغط على قطاع غزة.
وتطورت العمليات لتشمل استهداف السفن الإسرائيلية مباشرةً، ومن ثم انتقل الانتباه الحوثي إلى ميناء إيلات والمناطق التي تؤثر اقتصاديًا على الكيان الصهيوني، لتحقيق ضغط اقتصادي عليه وتكبيده الخسائر.
ركز الحوثيون على السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، حتى وإن لم تكن تلك السفن إسرائيلية، بهدف فرض حصار اقتصادي وقطع البضائع عن إسرائيل.
وأثرت الهجمات على الاقتصاد الإسرائيلي، حيث أكدت تقارير عالمية تأثر التجارة وخاصة قطاع السيارات، حيث اتجهت الهجمات الحوثية بشكل مكثف نحو السفن، مما أدى إلى تأثير وصلت نسبته إلى قطع 90% من السفن المتجهة إلى الكيان، خاصة في قطاع السيارات.
تطورت العمليات الحوثية لتهديد كافة الدول والسفن التابعة للدول المشاركة في تحالف "حارس الازدهار"، وهو ما وسع نطاق المواجهة وزاد من احتمالات التصعيد، وتنوع الأهداف.
وفي أغلب الأوقات، أظهر الحوثيون حذرًا وانضباطًا في التعامل مع الأهداف الأمريكية، ما يعكس عدم رغبتهم في التصعيد المباشر واستفزاز واشنطن إلى الدخول في حرب، مما يدل على فهم الحوثيين لحجم ووزن ومساحة التحرك.
التقنيات والأسلحة المستخدمة
شهدت جملة العمليات الحوثية استخدام القدرات الصاروخية والبحربة والتكتيكية التالية:
- الألغام الملتصقة.
- عمليات الصعود على متن السفن والاستيلاء عليها باستخدام القوارب الصغيرة و/أو المروحيات.
- هجمات الطوربيدات المأهولة أو الموجهة عن بُعد بواسطة غواصين محترفين.
- إطلاق صواريخ قصيرة المدى من الزوارق السريعة.
- الطائرات الهجومية المسيّرة الأحادية الاتجاهٍ مثل "شهاب" و"قاصف" و"ويد".
- صواريخ "كروز" مضادة مداها يصل من 80 إلى 300 كيلومتر، من بينها صواريخ "صياد" و"سجيل".
- الصواريخ البالستية مثل "قدس2" و"قدس 3"، و"قدس 4"، والتي يبلغ مداها من 1350 كيلومترًا إلى نحو 2000 كيلومتر؛ وهو ما يجعل مدن تل أبيب وإيلات في مداها.
كما شهدت العمليات الحوثية تطور نوعي في الأسلحة المستخدمة طول فترة التصعيد، حيث شهدت العمليات انتقال من مجرد إطلاق الصواريخ ناحية إسرائيل، إلى استخدام المسيّرات، وهو ما أحدث مرونة وانتقال نوعي في نجاعة وتأثير وقدرة الوصول بالنسبة للحوثيين.
كما تطورت العمليات لاستخدام الألغام الملتصقة، وصواريخ كروز، وبعض الصواريخ ذات القدرات المتقدمة والمدى الأبعد.
تبني العمليات وتطور خطاب الحوثيين
لم يكن هناك إعلان مباشر حوثي في البداية لتبني العمليات؛ ربما بقراءة المشهد، أو لعدم توافر الجرأة الكافية لذلك، أو ربما عدم موثوقية الروايات الحوثية وعدم اهتمام المجتمع الدولي بتلك الجبهة أو تصديق ما يطلقه الحوثيين، نظراً لأن معظم التركيز كان على الجبهة الشمالية متمثلة في حزب الله، أو الجانب الإيراني والحري الثوري.
واتسم الخطاب الحوثي في البداية بالشكل الغير رسمي، العشوائي والتقليدي، ثم انتقل إلى الشكل الرسمي، المنظم، وأصبح هناك بيان رسمي من يحيى سريع، وإ‘لان بشكل مباشر وتفصيلي عن تبني العمليات، وطبيعتها وأهدافها.
كما اتسم الخطاب الحوثي الإعلان بالقوة والشجاعة واستثارة المشاعر والتركيز على خطاب نصرة غزة واستهداف السفن الإسرائيلية، ثم انتقل بعد ذلك لمسألة التصدي لإسرائيل والعدو الأكبر أمريكا، والتأكيد على استهداف السفن الإسرائيلية والذاهبة للموانيء الإسرائيلية مع موازنة في الخطاب بمحاولة تحييد الدول الأخرى وتوجيه خطاب طمأنة بعدم استهدافها وأن الملاحة آمنة.
وانتقل الخطاب الحوثي لمرحلة اتسمت بالتناقض، ما بين تصعيد وتهديد ومبالغة باستهداف سفن الدول التي انخرطت في تحالف "حارس الازدهار"، وفي نفس الوقت لم تخل معظم تصريحات وتغريدات القادة الحوثيين من التأكيد مراراً وتكراراً على عدم استهداف سفن الدول الأخرى والمبالغة في التأكيد والتصريح، وربما يعكس ذلك استشعار الحوثيين أن المسألة قد تخرج عن السيطرة، وقد تتعرض لتحالف وضربة حقيقية.
ردود الأفعال على العمليات الحوثية
ردود الأفعال اليمنية:
- هناك حالة استياء من الحكومة الشرعية اليمنية من الممارسات الحوثية والتصعيد في البحر الأحمر وتعريض مستقب اليمن للخطر الأمني والاقتصادي، غير أنها كانت أكثر انضباطاً في التعاطي مع الخارج والأطراف الخارجية.
- وكان المجلس الاتنتقالي الجنوبي اليمني أكثر حدة في هجومة على الحوثين، وزادت حدة موقفه مع تطور الأحداث وبخاصة مع الإعلان عن تحالف حارس الازدهار ومحاولة مغازلة واشنطن والإعلان عن استعدادها المشاركة في تأمين البحر الأحمر وردع الحوثيين.
- وحصل الحوثيين على المستوى الشعبوي، محلياً في اليمن، وعربياً، وإسلامياً، على دعم معنوي وتعاطف كبير جداً، بصرف النظر حول تأثير العمليات وأهدافها ومخرجاتها النهائية.
ردود الأفعال الاقليمية
- اتسمت ردود الأفعال الاقليمية بالوعي والحكمة والانضباط الشديد، فعلى الرغم من الاستياء ورفض التصعيد الحوثي، غير أن الدول المشاطئة والموجودة على البحر الأحمر لم تدعم تصعيد المواجهة ولم تشارك في تحالف حارس الازدهار أو دعمه رسمياً من منطلق إدراك لهامش التداعيات المختلفة السلبية له.
- ورغم تأثر مصر سلبياً وتراجع حركة الملاحة في قناة السويس لكن الموقف المصري كان عاقل بعدم الانخراط في مشاركة فعلية في التحالف أو التصعيد المبالغ فيه، وإنما جاء مؤكداً على ثوابت الحفاظ على أمن الملاحة والمصالح المصرية بدون الانولاق في فخ مواجهة مباشرة.
- ولم يغب عن دول الخليج وبخاصة السعودية موازنات وحسابات وأولويات المرحلة من ضرورة تقديم مصلحة الشعب اليمني وعملية السلام عن أية اعتبارت أخرى، ومن منطلق أن هناك حسابات ونوابا أمريكية أخرى من عملية تحالف الازدهار، كما أن أهدافه ربما معنية أكثر بحماية إسرائيل عن مسألة تأمين الملاحة، والسبب الأهم هو أن الخبرة التاريخية للتحالفات الأمريكية يشوبها توريط المنطقة في أزمات دون تقديم مقاربات واستراتيجية واضحة لما بعد الأزمة، وأن السلوك الأمريكي في أفغانستان والعراق يؤكد هذا الأمر، علاوة على أن أي عملية سيكون لها ارتدادات أمنية واقتصادية مباشرة سيعاني منها دول الاقليم والجوار أكثر من أية دولة أخرى.
- ومشاركة البحرين كدولة وحيدة من دول الخليج ربما يأتي وفق توازنات معينة للبحرين وللمنطقة.
- إصرار إيران على نفي مسؤوليتها عن عملية طوفاان الأقصى، ونفي ما خلصت له تقارير عدة بأنها تقدم دعم استراتيجي واستخباراتي للحوثيين، والتأكيد على أن الحوثيين يمتلكوا قرارهم السياسي، يؤكد على رغبة إيرانية في عدم الانخراط في الحرب بشكل مباشر، وتجنب الدخول في صدام مباشر.
ردود الأفعال الدولية
- سارت المواقف الدولية على نفس الخط من رفض التصعيد الحوثي وأثره على التجارة العالمية.
- الغريب في الأمر أن الدول التي طالها تأثير مباشر من الحوثيين لم تشارك في التحالف الأمريكي رغم تأثر مصالحها وسفنها.
- معظم الدول التي تمتلك أو التي بها الشركات الرائدة في الشحن عالمياً مثل الدانمارك والنرويج وغيرها، هي لم تشارك في التحالف الأمريكي.
- يشكل وجود 10 دول فقط – ورغم إعلان دول أخرى رغبتها في الدخول للتحالف- عدم ثقة في الجانب الأمريكي، ويمثل عدم مشروعية وفشل مسبق للتحالف في تحقيق أهدافه، وبخاصة في ضوء أن العديد من التقارير الدولية تؤكد وجود شكوك حول قدرة واشنطن على تحقيق ذلك الهدف.
حجم تأثير العمليات الحوثية
أثرت الهجمات الحوثية بشكل كبير على استقرار سلاسل الإمداد العالمية، حيث أعلنت كبرى شركات الشحن العالمية عن تحويل خط الملاحة والتجارة إلى رأس الرجاء الصالح، وتتمثل تداعيات هذه التغيرات في احتمالات ارتفاع الأسعار والتضخم وزيادة أسعار الطاقة لاحقًا، وهو ما يعتبر تحديًا اقتصاديًا هامًا.
ولا يقتصر التأثير على الجوانب الاقتصادية فحسب، بل يمتد إلى حركة التجارة والسفن المتجهة إلى إسرائيل، فالاستهداف الحوثي لبعض المناطق في إسرائيل يحمل تداعيات أمنية جادة، تؤثر على تل أبيب وتعزز من التوتر في المنطقة، حيث تتسبب هذه العمليات في تداول سلبي على ميناء إيلات وتأثير على اقتصاد الكيان.
ورغم ذلك، يظل تقدير درجة تأثير هذه العمليات وقوتها محل خلاف، حيث يشير البعض إلى أنها نجحت إعلاميًا وفي تأثير حركة التجارة، ولكنها لم تحقق الهدف الأساسي وهو تكبيد إسرائيل خسائر حقيقية على الصعيدين العسكري والأمني.
وتُشير جملة العمليات الحوثية إلى تغير جزئي في موازين القوى ولكنها لا تُعتبر تغييرًا جوهريًا في مسار الحرب، فتظل هذه الأحداث جزءًا من التوترات الإقليمية والتصعيد الذي يتسم بالتعقيد والتفاعلات المعقدة.
تقييم أهداف التصعيد الحوثي في البحر الأحمر
أثارت طبيعة وحقيقة الاستهداف الحوثي لإسرائيل علامة استفهام كبرى؛ خاصة أنه لماذا لم يقم الحوثيين باستهداف إسرائيل في نقاط وأهداف أقرب وأكثر تأثيراً خاصة أن إسرائيل لها تواجد عسكري مباشر في البحر الأحمر في قواعد في رواجيات ومكهلاوي، كما تمتلك قواعد جوية في جزر حالب، وفاطمة عند مضيق باب المندب، كما قامت باستئجار جزيرة دهلك وأقامت قاعدة بحرية، علاوة على تواجد حوالي نصف القوات الجوية الإسرائيلية في البحر الأحمر في قواعد النقب، وتواجد قوات فرقة مدرعة إسرائيلية كبيرة في المنطقة العسكرية الجنوبية قريباً من البحر الأحمر.
وتقدم النتائج والمخرجات النهائية للعمليات الحوثية خدمات مجانية لاستقدام الولايات المتحدة للمنطقة وإيجاد مبرر مقنع ومنطقي للسيطرة على باب المندب، كما أنه يساعد الإدارة الأمريكية في خلق وإيجاد عدو جديد، يمكن تحت مظلته انتهاج سياسات معينة، علاوة على إدارة العلاقات مع الكونغرس بتعديل أو طلبات بخصوص ميزانية الدفاع ودعم العمليات، وأيضاً تطويع المسألة للعملية الانتخابية في الداخل وحشد الأصوات.
مستقبل وسيناريوهات التصعيد
يؤكد التطور الأخير الخاص بتصرحات واشنطن وبريطانيا ولأول مرة والتلويح باستهداف الحوثيين، والرد الحوثي على ذلك، على احتمال التصعيد وأن مسألة ضبط حدود المشهد ومربع المواجهة هي مسألة ليست مضمونة.
في ظل هذا السياق، تأتي المساعي المصرية والقطرية في سعيها لوضع رؤية لهدنة إنسانية أو وقف إطلاق النار، وعلى الرغم من صعوبة تحقيق ذلك، إلا أنها تحمل هامشًا للنجاح، وتبني الأمل في التأثير على سلوك الحوثيين وتعزيز التهدئة.
تلعب المساعي السعودية دورًا حيويًا في توجيه سلوك واشنطن ومحاولة تأجيل سيناريو المواجهة، خاصة بناءً على التصريحات الإيجابية للمبعوث الأممي والتفاعل الجيد حول خطة الطريق. ورغم التطورات الأمنية والسياسية، يظل الوضع الإسرائيلي حيثما يرد على أهداف محددة في سنعاء ومراكز الأسلحة والذخيرة الحوثية.
في حال قررت واشنطن تنفيذ عمليات في الوقت الحالي، فإن هذا قد يبعد من فرص الحل السياسي في اليمن، مما ينعكس على رؤية واشنطن لاحتمالات التهدئة في غزة والوصول إلى اتفاق.
وفي السياق ذاته، يظهر أن السيناريو الأقرب حاليًا هو تأجيل المواجهة والتصعيد، مع الحفاظ على إطار حماية السفن والملاحة وردع الحوثيين.