المفتي: المطّلِع على التراثِ الفقهي يعلم يقينًا تناوله لكافة مناحي الحياة
قال الدكتور شوقي علام- مفتي الجمهورية، ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم: إن المطَّلِع على التراثِ الفقهي الإسلامي يعلم يقينًا أنه قد تناول سائر مناحي الحياة اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وأنه كما تناول مشكلات عصره ووضع لها المعالجات المناسبة أسس كذلك للنُّظم والقواعد الحاكمة لما قد يظهر من قضايا وتحدياتٍ فيما يستقبلُ من زمان.
جاء ذلك في كلمته التي شارك بها في فعاليات الملتقى الدولي حول القضايا الفقهية المعاصرة في الاقتصاد والتمويل الإسلامي خلال الدورة السابعة لمهرجان إندونيسيا للاقتصاد الإسلامي الذي بدأت أعماله افتراضيًّا اليوم ويستمر حتى 31 أكتوبر الجاري.
وأضاف أن تناول فقهائنا القدامى للمعاملاتِ المالية يُظهر بوضوح مراعاتهم لبيئاتهم وظروف أقوامهم وأعرافهم واحتياجاتهم المختلفة؛ فقد استنبطوا من النصوص الشرعية القواعدَ الأساسية لاقتصادٍ متكامل اشتمل على القضايا الأساسية لجوانب الحياة الاقتصادية؛ فعالج قضية تخصيص الموارد، وقضية التوزيع، وقضية التنمية الاقتصادية.
وأشار إلى أن هذه القضايا الرئيسية لعلم الاقتصاد هي قضايا تسعى الشريعة إلى تحقيقها على الوجه الأكمل؛ فالشريعة الإسلامية في نصوصها من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرَّفة تحضُّ المسلمين على العمل على استغلال الموارد الاقتصادية التي سخرها الخالق سبحانه وتعالى للإنسان، وتحث الإنسان على التنمية وفقًا لمفهوم العمران الوارد في قوله عز من قائل: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}؛ أي: طلب منكم عمارتها، وتحضُّ الناسَ على العلم والتطوير واكتساب المعارف الجديدة وتطبيقها في رفع مستوى العمران.
وأوضح مفتي الجمهورية أن قضية التوزيع للناتج على الأفراد في المجتمع تحظى بأهمية كبيرة في تشريعات الإسلام، وهنا يتميز الإسلام عن النظم الاقتصادية المعاصرة بأنه يُقرر ضمان توفير حد الكفاية لكل فردٍ في المجتمع؛ مسلمًا أو غير مسلم، والنصوص الشرعية الدالة على ذلك لا تحتاج إلى بيان.
وأضاف أن القضاء على الفقر في المجتمعِ غايةٌ أصيلةٌ في الشريعة الإسلامية لم تصل إليها بعدُ مدارك الفكر الاقتصادي الحديث، فغايةُ أملهم هو التخفيف من مستوى الفقر، وشتان بين هدف القضاء على الفقر برمته مع ضمان كفالة مستوى الكفاية لكل فرد في الإسلام، وبين هدف التخفيف من حدة الفقر في النظم الاقتصادية الوضعية.
وبيَّن المفتي في كلمته أن الطابع التعاوني الخيري قد مثَّل ركنًا أساسيًّا للشريعة الإسلامية؛ فقد حث الإسلامُ على مساعدة الآخرين والتعاون على فعل الخيرات، كما مهَّد الإسلام طرقًا عدة لنفع الناس؛ منها ما هو فرضٌ كالزكاة ونحوها، ومنها ما يقوم به المسلم على سبيل التطوع والبر؛ مثل الصدقة والوقف.
ولفت فضيلته النظر إلى أن ذلك الوقف يدخلُ في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، قال النووي عند شرح الحديث: «إن الوقف هو الصدقة الجارية، وفيه دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه».
وأوضح فضيلته أن الوقف يتميز عن أي طريق خيري بخصائصَ وميزات متعددة قد لا توجد في غيره من طرق الخيرات، وهذه المزايا أكسبته حيويةً استمر أثرُها في الأمة الإسلامية على مدى تاريخها الطويل.
من هذه المزايا كما ذكرها فضيلة المفتي: أن الإسلام أعطى الواقفَ الحرية الكاملة في الكيفية التي يرغب بها في التصرف فيما يُوقفه من أموال، وكفل له الشروط التي تُلبي رغباته وتحقق آماله فيما يوقفه من أموال وأعيان، وكل ذلك فيما هو في حدود الشرع وَفق القاعدة الفقهية (شرط الواقف كنص الشارع).
أما الميزة الثانية فهي استمرار الأجر وعدم انقطاعه ما بقيَ نفع العين الموقوفة، بل قد يزيد هذا الأجر بزيادة منفعة العين الموقوفة؛ وذلك إذا أحسن المتولون للوقف إدارة هذا الوقف واستثماره تبعًا لظروف كل عصر يمر عليه.
وقال فضيلته: "ولأن الوقف يتمتع في أحكامه بمرونة وسعة رأينا إقبالًا كبيرًا من أفراد المجتمع المسلم حكامًا ومحكومين على وقف الأموال وتحبيس الأملاك لأعمال الخير والبر، وقدوتهم في ذلك نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام في قصة مخيريق لما قَبَضَ عليه السلام ما وصَّى به فجعله أوقافًا بالمدينة للَّه، وكانت أول وقف بالمدينة، ثم من بعده عليه السلام جاء صحبُه الكرام؛ فقد وقف كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير بن العوام ومعاذ بن جبل وعائشة وأم سلمة وغيرهم كثير، ومن بعدهم من التابعين وتابع التابعين، ومن بعدهم من المسلمين أقوامٌ كُثُر".