عاجل وخطير..هكذا ساهمت إسرائيل في تأسيس الجيش التركي الحديث
في السنوات الأولى من تسعينيات القرن العشرين، وضع مجلس الأمن الوطني في تركيا، الذي أسسه الجيش التركي منذ العام 1961، بغرض رسم الخطوط العامة لسياسات الدولة التركية، توجهات أنقرة الجديدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، ضمن ما يعرف باسم "الكتاب الأحمر". وهو وثيقة وصفت بأنها الأكثر سرية في تاريخ تركيا، وتجدد موادها على الأقل كل عقد من الزمان، من قبل مجلس الأمن الوطني التركي.
في هذه النسخة المحدثة من الكتاب الأحمر، أكد قادة الجيش التركي على ضرورة التعاون العسكري دون قيد مع إسرائيل، لتحديث الآلة العسكرية التركية، ومواجهة التحديات التي تنتظر الأتراك، سواء على حدودهم الجنوبية مع سوريا ومقاتلي حزب العمال الكردستاني، أو الغربية حيث الصراع الأزلي مع اليونان في بحر إيجه. ووقع اختيار القادة على إسرائيل تحديدا بسبب تفوقها العسكري التقني في منطقة الشرق الأوسط، والاستعاضة بها عن دول الاتحاد الأوروبي، أو الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ترددت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في تطوير الجيش التركي، وإمداده بأحدث الأسلحة، خوفا من استخدام الأخير ذلك في نواياه العدوانية تجاه دول الإقليم.
ولما كانت تركيا في هذه الفترة قد قررت أن تخلع السرية عن علاقاتها بالكيان الصهيوني بعد أن ارتضى العرب التفاوض مع إسرائيل (مؤتمر مدريد 1991، مؤتمر أوسلو 1993)، فقد اعتبرت المؤسسة العسكرية التركية أن الوضع العام في المنطقة، يسمح لها بإعلان تعاونها العسكري والأمني مع إسرائيل، دون الخوف من غضبة الدول العربية، خاصة النفطية منها.
يؤرخ ببداية العلاقات العسكرية التركية الإسرائيلية، بزيارة الرئيس الإسرائيلي حاييم هرتسوج العاصمة التركية أنقرة في يناير من العام 1994، حيث صاحبه وقتها أكثر من عشرين شخصية رئيسية في مجال التصنيع الدفاعي الإسرائيلي. وهو ما رد عليه الأتراك بإرسال وفد تركي إلى تل أبيب خلال شهر فبراير من نفس العام، وضع مجالات التعاون العسكري على رأس أجندة محادثاته مع الصهاينة.
وفي 23 فبراير 1996، وعقب زيارة الرئيس التركي سليمان ديميريل إلى إسرائيل، وقعت اتفاقية "التعاون والتدريب العسكري" بين البلدين، وتضمنت عقد المناورات المشتركة، واقتسام التقنيات الدفاعية الحديثة، إضافة إلى تبادل المعلومات الاستخباراتية.
وقد كانت الاتفاقية السابقة في حقيقتها تحقق نفعا تبادليا بين البلدين. فمن جهة، وصل بها الأتراك إلى مرادهم الأساسي، وهو تحديث آليتهم العسكرية كما قال وزير الدفاع التركي في ذلك الوقت وجدي غونول، كما حصلوا على المعلومات عن تحركات الأكراد ضد الحدود التركية في الشمال السوري. ومن جهة أخرى، خلقت إسرائيل بتلك الاتفاقية زبونا دائما لمنتجاتها الحربية، إضافة إلى ضمان اصطفاف تركيا إلى جانبها، في حال اندلع الصراع مع خصوم تل أبيب في سوريا أو العراق أو إيران. وهو ما عبر عنه وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت إسحق مردخاي، حين امتدح الاتفاقية مؤكدا صناعتها ذراعا صلبة ضد أعداء البلدين.
المقاتلات
كان تطوير سلاح الجو التركي على رأس أولويات اتفاقية التعاون العسكري مع إسرائيل. لذلك كانت البداية في تطبيق الاتفاق من قيام مصانع الطيران الإسرائيلي بتحديث 54 طائرة من طائرات فانتوم F - 4 التركية، في صفقة قدرت قيمتها بـ700 مليون دولار. وقد عادت تركيا في العام 2003، وطلبت إعادة ترقية طائرات الفانتوم لديها من نفس الطراز. وهذه المرة، نزل خبراء مصانع الطيران الإسرائيلية لتنفيذ مهمتهم في مركز الدعم الجوي بمدينة أسكي شهر شمال غرب أنقرة.
كانت طائرات الهليكوبتر العسكرية التركية كذلك ضمن خطة التطوير الإسرائيلية. فقد حصلت مصانع إسرائيل العسكرية على عقد قيمته 110 مليون دولار، مقابل إمداد طائرات الهليكوبتر التركية بأنظمة قتال إلكترونية. ثم أتبع ذلك عقد جديد قيمته 57 مليون دولار لإمداد الهليكوبتر التركي بنظام المشعل الحراري المسئول عن التمويه وتفادي الصواريخ المعادية. والصفقة الأخيرة شهدت بداية التعاون بين مصانع إسرائيل العسكرية وشركة أسيلسان التركية الشهيرة للتصنيع الدفاعي.
كما فازت شركة ELBIT systems الإسرائيلية بعقد قيمته 14 مليون دولار لتطوير طائرات الهليكوبتر التركية من طراز سيكورسكي S - 70 بلاك هوك. وأمدت نفس الشركة سلاح الجو التركي بصفقة من الطائرات الإسرائيلية بدون طيار.
الدبابات
تلت الدبابات التركية سلاح الجو في اتفاقية التعاون بين تركيا وإسرائيل. فقد رغب قادة القوات البرية التركية في تحديث أسطولهم من دبابات M60 أمريكية الصنع، ووافقت إسرائيل، بعد نقاشات دارت بين المسؤولين الأتراك وبين أرئيل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها، وبنيامين بن إليعازر وزير الدفاع الأسبق، و شاؤول موفاز القائد العام الأسبق للقوات المسلحة الإسرائيلية. لكن الخلاف حول قيمة الصفقة أجل إتمامها أكثر من مرة. مثلما حدث في أبريل 2001، عندما جمدت أنقرة عمليات التطوير الإسرائيلية لـ 170 دبابة تركية، بسبب تمسك الطرف الصهيوني بـ700 مليون دولار كثمن للصفقة، مقابل 550 مليون دولار عرضها الأتراك.
ولكن بين منتصف يناير وأوائل مارس من العام 2002، أعيد فتح النقاش حول صفقة الدبابات مرة أخرى. وفازت بها مصانع الدفاع الإسرائيلية بنفس القيمة السابقة التي أرادها الصهاينة (700 مليون دولار). وقد قبلت إسرائيل في بنود تلك الصفقة، أن تؤسس بعد تطويرها الدبابات التركية في الورش الإسرائيلية، خطا لإنتاج الدبابات في تركيا نفسها. وأن تنقل إلى الأتراك تقنية صناعة الدبابة الحديثة. وأنشئ بالفعل ذلك الخط لاحقا بمساعدة إسرائيل داخل منشأة صيانة تابعة للجيش التركي في مدينة قيصري الواقعة بالقلب من الأناضول.
وقد سافر وفد من الجيش التركي إلى إسرائيل في مايو 2005، وحضروا عرضا للقدرات النارية لدبابات M60 التركية بعد تطويرها داخل القاعدة العسكرية الإسرائيلية الواقعة إلى الجنوب من صحراء النقب. وأشاد أعضاء الوفد بإمكانيات التطوير بعد التطوير، والذي أشرف عليه الجنرال الإسرائيلي ديفيد أنجل، رئيس مشروع تطوير دبابات MERKAVA - 4 الإسرائيلية الشهيرة.
الصواريخ
كانت الصواريخ أيضًا ضمن اتفاقية التعاون العسكري بين تركيا وإسرائيل. فكانت شركة رفائيل الإسرائيلية الدفاعية ومقرها حيفا، هي التي تولت إنتاج صواريخ POPEYE جو - سطح متوسطة المدى للجيش التركي. كما كانت مسؤولة عن إمداد أنقرة بمنظومة دفاع جوي مضادة للصواريخ الباليستية.
المناورات
أخيرًا كانت المناورات المشتركة هدفا رئيسيا لكلا الطرفين، تركيا وإسرائيل في اتفاقية التعاون 1996. ومن أجل ذلك، سافر وفد عسكري بقيادة نائب القائد العام للجيش التركي شفيق بير تل أبيب في مايو 1997، مصحوبا بمجموعة مكونة من 26 ضابطًا تركيًّا رفيع المستوى، للتشاور مع الجانب الإسرائيلي حول عقد مناورات عسكرية بين الجانبين. وحضر ضباط أمريكيون تلك المحادثات لمراقبة تطور التعاون العسكري بين تركيا وإسرائيل. وفي النهاية، تمخض الأمر عن مناورات RELIANT MERMAID الثلاثية المشتركة بين تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، والتي عقدت لأول مرة في يناير 1998 بمياه شرق المتوسط، ثم تقرر عقدها دوريا بانتظام كل عام.
ولم تقتصر تلك المناورات على المجال البحري فحسب، بل تمددت إلى التدريبات الجوية المشتركة بين الأطراف الثلاثة نفسها. وهو ما بلغ ذروته بحلول يونيو من العام 2001، حين عقدت في سماء قونية ولمدة 12 يوما، تدريبات عسكرية شاركت فيها عشرات الطائرات التركية والإسرائيلية والأمريكية، أطلق عليها اسم "النسر الأناضولي". وقد مال محللون إلى أن إسرائيل كانت ترغب من تلك التدريبات، في تهيئة طياريها المقاتلين على توجيه ضربات عسكرية في أجواء جبلية تشبه تلك التي تمتلكها إيران. أي أن النسر الأناضولي كانت في جزء مهم منها، تدريبًا إسرائيليًّا على حرب مستقبلية ضد نظام الملالي في طهران.