رفض الفاروق كتابتها .. هذه تفاصيل فتنة وصية الرسول بين الصحابة
قال الدكتور شوقي علام، مفتي الديار المصرية، إن الله تعالي اختص رسوله الأمين صلى الله عليه وآله وسلم بجملة من الخصائص التي لا يشاركه فيها سابق ولا لاحق؛ فمنها أن الله تعالى قد عصمه من الخطأ فيما أمر بتبليغه للأمة، وفيما أذن الله تعالى له بالاجتهاد والاختيار فيه من شئون الدنيا وأمور الدين معا."
وتابع: "إن ذلك لحكمة بالغة تتجلى في مشروعية الاجتهاد واستمراره إلى يوم الدين، ورفع التهيب عن أهل العلم في استعماله والاستنباط وإلحاق الفروع بالأصول وإرشاد الأمة للعمل بما انتهى إليه المجتهد، خاصة في المسائل الاجتهادية الظنية متى طلب الحق وكان مؤهلا لذلك محصلا لشرائطه في الاستنباط والتخريج".
جاء ذلك خلال إجابة فضيلة المفتي علي سؤال ورد عبر موقع دار الإفتاء المصرية الرسمي يقول : "كنت أقرأ في بعض كتب الحديث، ففوجئت بواقعة حدثت وقت موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث طلب أن يكتب للمسلمين كتابا لكي لا يضلوا بعده، فرفض بعض الصحابة ذلك وعلى رأسهم الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتعالت أصوات الصحابة عنده حتى طردهم جميعا من عنده. فكيف نستطيع أن نرد على هذه الشبهة، وماذا نفعل في الحديث الصحيح الذي بين أيدينا؟"
وأوضح"علام" في إجابته على السائل، انه إذا ما اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئا ثم أرشده الله تعالى إلى شيء آخر فلا يصح اتخاذ هذه المواقف تكأة لنسبته صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخطأ وعدم العصمة، فحاشا أن يكون شأنه صلى الله عليه وآله وسلم من قبيل ذلك كبقية البشر، بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يألو جهدا في الاجتهاد مع أنه ليس مطالبا شرعا بإصابة مضمون الحكم باعتبار ما عند الله تعالى؛ حيث إن ذلك ليس مقدورا للطاقة البشرية، وإنما يراد من الصواب في مثل هذه الأمور صواب العمل الذي يصلح أن تؤسس عليه أفعال العباد وتصرفات المكلفين".
وقال المفتي، "إن هذا يظهر أن ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة أقوالا وأفعالا وتقريرات مما يوهم نسبة الخطأ وانتقاص العصمة، إنما هو من قبيل العدول عن الأولى والانتقال من الصواب إلى الأصوب منه فحسب، وفيه تدرج حكيم من التشريع والتربية العملية والتوجيه إلى مكارم الأخلاق لربط الأسباب بالمسببات، ومن ذلك ما ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرض موته طلب أن يكتب للمسلمين كتابا فيه وصيته لكي لا يضلوا بعده، فامتنع بعض الصحابة ومن وافقهم من آل البيت رضي الله عنهم جميعا أن يعطوه الكتاب، وطلبوا من الباقين أن لا يعطوه، وقالوا: "نكتفي بكتاب الله تعالى".
فقد روى الإمام البخاري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي البيت رجال، فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده"، فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله".
وعن ما حدث يوضح فضيلة المفتي، "اختلف أهل البيت فاختصموا؛ منهم من يقول: قربوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قوموا"، قال عبيدالله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.وفي رواية أخرى عند البخاري -واللفظ له- ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء فقال: "اشتد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعه يوم الخميس فقال: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا"، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه"، وأوصى عند موته بثلاث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم"، ونسيت الثالثة.
الظاهر أنه أراد كتابا يلخص فيه مهمات الأحكام حتى يحصل الاتفاق على المنصوص عليه ويرتفع النزاع فيها، والأظهر أنه أراد النص فيه على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه حتى تعصم الأمة من الفتن والنزاعات.
ويؤيد القول الأخير ما أخرجه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" عن ابن أبي مليكة عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ائتني بدواة وكتف أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا»، ثم ولانا قفاه، ثم أقبل علينا، فقال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر".
وما كان ذلك إلا اجتهادا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورحمة بالأمة حتى لا تضل بعده، فأحب أن يكتب لهم شيئا يسترشدون به، لكن لاعتماده على ما علمه من تقدير الله تعالى واشتداد مرضه صلى الله عليه وآله وسلم وتنازعهم عدل عن ذلك مكتفيا بما رسخه من قبل، حيث استخلفه في الصلاة في عدة مواضع
ويقول فضيلة المفتي، ليس لأحد أبدا أن يدعي أن ذلك كان مما أمره الله عز وجل بتبليغه، ولا يجوز أن يحمل قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أنه اتهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو ظن به شيئا مما لا يليق به بحال؛ فإن المتأمل في روايات الحديث المتعددة يجد أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن وافقه من الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم جميعا إنما كان يحضرهم قول الله تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾ [المائدة: 3]
وقوله عز وجل: ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ [الأنعام: 38]، فما قالوا ذلك انتقاصا لقدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما شفقة منهم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحاله؛ فإنهم كانوا يتألمون لألمه، ولم يكونوا يظنون أن هذا هو مرض موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد رأى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لا مانع من تأجيل ما يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابته إلى أن يصح من وعكته؛ حيث قصد بقوله: "قد غلب عليه الوجع" أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد زاد عليه الألم واشتد به المرض، فما أحب أن يشقوا عليه بالكتابة وهو بهذه الحالة، وأنه يمكن أن تتم كتابة الكتاب في أي وقت آخر بعد أن يشفى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مرضه؛ قال العلامة الإمام النووي في المرجع السابق -نفسه-: [وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وآله وسلم أمورا ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها؛ لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: "حسبنا كتاب الله"؛ لقوله تعالى: ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾، وقوله: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه... قال البيهقي: وإن كان المراد بيان أحكام الدين ورفع الخلاف فيها فقد علم عمر حصول ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ وعلم أنه لا تقع واقعة إلى يوم القيامة إلا وفي الكتاب أو السنة بيانها نصا أو دلالة، وفي تكلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه مع شدة وجعه كتابة ذلك مشقة، ورأى عمر الاقتصار على ما سبق بيانه إياه نصا أو دلالة؛ تخفيفا عليه، ولئلا ينسد باب الاجتهاد على أهل العلم والاستنباط وإلحاق الفروع بالأصول وقد كان سبق قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر".
وهذا دليل على أنه وكل بعض الأحكام إلى اجتهاد العلماء وجعل لهم الأجر على الاجتهاد فرأى عمر الصواب تركهم على هذه الجملة؛ لما فيه من فضيلة العلماء بالاجتهاد مع التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم] اه.
كما أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على من خالف أمره؛ فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقر مخالفة الواجب إجماعا واتفاقا. وقد بقي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك أربعة أيام دون أن يكتب شيئا، أو أن يعيد عليهم الأمر بالكتابة فلو كان أمره على سبيل الوجوب أو كان الله تعالى قد أوحى إليه بالكتابة لما سمح بتأخيرها، ولأعاد الأمر بها، فلا شك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الصادق الأمين الذي يبلغ ما أمر به، ولو أنكر أحد أمانته صلى الله عليه وآله وسلم فقد كفر.
وفي ذلك قرائن ودلالات تؤيد ما ذهب إليه سيدنا عمر ومن وافقه من الصحابة وآل البيت رضى الله عنهم جميعا من أن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن على سبيل الوجوب، وإن كان آخرون منهم قد فهموا غير ذلك.
وبناء على ما سبق: فإن هذا الموقف من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدل على قوة فقهه ودقيق نظره؛ لأنه أراد التخفيف عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين غلبه وجع المرض وألم الكرب، وأنه أخذ من ذلك قرينة دلت على أن الأمر ليس على اللزوم بل على الاختيار
ولو أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتهد فاشتبه عليه الأمر وكان مخطئا في اجتهاده هذا، فإن سائر أهل الاجتهاد مثابون على اجتهادهم؛ لأنهم أطاعوا الله ورسوله فيما فعلوه من الاجتهاد بحسب استطاعتهم، ولهم أجر على ذلك، فمن اجتهد منهم وأصاب كان له أجران، ومن اجتهد وأخطأ كان له أجر، وفي تركه صلى الله عليه وآله وسلم الإنكار عليه إشارة إلى تصويب رأيه. ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة سيدنا علي كرم الله وجهه ورضي عنه فهو ضال.