«اعتبروني مسافر».. رسائل صلاح نصر لزوجته وأبنائه من داخل السجن الحربي
بعد هزيمة 5 يونيو عام 1967، وُجهت اتهامات لعدد من المسؤولين بإساءة استخدام السلطة، وألقي القبض عليهم، وأودع عدد منهم بالسجن الحربي تمهيدًا للمحاكمة.
وكان صلاح نصر رئيس جهاز المخابرات العامة، أحد هؤلاء المسؤولين الذين تم إيداعهم في السجن الحربي، ومن هناك كتب عدة رسائل وخطابات إلى زوجته وأولاده، عبر فيها عن معاناته، وأنه تعرّض لخيانة أصدقائه، وأنه كان يعمل من أجل الوطن وإسعاد الشعب، وأنه لا يملك إلا الصبر على البلاء والدعاء إلى الله أن يكشف عنه الغمة ويكشف الحقيقة، وهو ما استعرضه سامي كمال الدين في كتابه «رسائل المشاهير».
عصا موسى
كان صلاح نصر يفيض بالأسى بعدما كانت له شخصيته ومكانته وقيمته، وإذ به يجد نفسه خلف أسوار السجن. ظهر ذلك في رسالته التي أرسلها إلى أسرته في 10 يناير من العام 1968، ووصف نفسه فيها بـ«المجاهد».
زوجتي الغالية.
فلذات أكبادي
أهلى وأحبائي
الحمد لله الذي لا يطير مع اسمه داء، ولا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء.. أنا بخير والحمد لله لا ينقصني شيء سوى أن أطمئن عليكم دائماً. رعاكم الله وحفظكم من تقلبات الزمان وبطش شرور الدنيا الزائلة.
تأكدي يا ابنتي سلوى العزيزة من أن أبيك المجاهد صلاح نصر موقفه في أي شيء واضح وضوح الشمس في كبد السماء.. وأنا المؤمن المستعد أن أواجه أي كيد وأن أردّ على كل حاقد وحاسد.
أما أنت يا محمد فأرجو أن تجتهد في دروسك وتبذل أقصى جهدك، وأن تعدني في خطابك القادم بذلك، ولعلني أسمع ما يسرني عن تقدمك في الدراسة.
سلامي لك يا ناجح وأرجو أن تكون رجل العائلة في هذه الظروف، وأنت نعم من يعتمد عليه، أما أنت يا هاني فقد سرني إيمانك الراسخ ورجولتك المبكرة.. وشد حيلك يا حمادة.. وقبلاتي لك يا سهير.
وكتب في جانب الخطاب:
«إذا كان لديكم أو لدى الوالد عصا وجيهة أتوكأ بها كما كان موسى عليه السلام يتوكأ على عصاه، فأرجو إرسالها والطاقية الاتراكان السوداء».
كشف الحجاب
وفي 20 يناير من العام 1968،كتب صلاح نصر رسالة إلى زوجته قال فيها إنه ضحى بسعادته طوال العشرين سنة الماضية من أجل بناء الوطن وإسعاد الشعب، ويقول فيها:
حبي الكبير ينبعث بكل إيمان وصدق لكم جميعاً، وروحي ترفرف عليكم جميعاً. وبعد، فقد حدث ما كنت أتوقعه منذ قررت الاعتزال عن العمل. وكأن الله سبحانه وتعالى قد كشف عني الحجاب فعرفت الصديق من العدو والوفي من الانتهازي.
إنه مهما حاول البشر أن يؤذي المؤمن فالله يعلم ما في النفوس ولكل امرئ ما نوى. لست أول من افترى عليه في الأرض، ولكن إيماني بالله سبحانه وتعالى ورضائي بحكمه هو عقيدتي التي لا يمكن أن يزحزحها إنسان على البسيطة.
لقد أخطأت خطأ جسيماً في حقكم فاغفروا لي.. لقد ضحيت بإسعادكم وراحتكم طوال العشرين سنة الماضية في سبيل محاولاتي للعمل لأبناء هذا الوطن.
لقد كانت العبارة التي قلتها أثناء العملية وأنا بالبنج منذ 3 سنوات والتي عرفتموها من الأطباء وأظنكم تتذكرونها «إنني أعيش لأسعد الثلاثين مليوناً.. ومستعد أضحى بحياتي لهم».
أن تاريخ أباكم مهما حاول أحد النيل منه فلن يستطيع، ومهما نبحت الكلاب المسعورة، فالتاريخ لا يمكن أن يزيف وهناك من المؤمنين الذين سيكتبون الحقيقة.
أما المنافقين الذين يعيشون على السحت والذين يأكلون على كل مائدة مبررين تصرفاتهم فلهم يوم الحساب حيث لا يشفع فيه جاه ولا مال ولا بنون.. غفر الله لهم أجمعين.
أنا لست مهتماً بأي شيء لأنني أعرف موقفي تماماً.. ولكن كان يؤذيني أن يقابل إخلاصي وتفاني بنكران وعدم اكتراث ثم ما لبثت ونظرت بعمق فتذكرت من قراءاتي أن ذلك ليس بغريب أو جديد وهكذا سنة الحياة.
هناك من تغريهم الحياة، فالوسادة الناعمة تغري الكثيرين على أن يفقدوا مبادئهم لينعموا ويتمرغوا، ولكن حين تبلى الوسادة يصبحوا لا شيء. ما أجمل أن تعرف النفس حقيقتها قبل أن تحاسب الآخرين.
أرجو محاولة الاتصال بي كما أرجو أن تأخذوا إذناً للأولاد لأراهم قبل الجلسة. وأعتقد أن جمال عبد الناصر لن يمانع في ذلك.
أرجو إرسال بدلتين آخرتين ومعهما كرافتات تناسبهما. كذلك الأشياء التي طلبتها من قبل.. وعدد اثنين علبة بخور وبن وقميصين بأساور وزراير وشاي وسكر.
ورع وتقوى
وفي فترة من الفترات كتب صلاح نصر لزوجته وأولاده عدة رسائل امتلأت بالورع والتقوى والإيمان، وذلك على خلاف ما كتب عنه، بل إنه كان يضّمن خطاباته بآيات وسور من القرآن الكريم.
في 23 يونيو من العام 1968، كتب رسالة إلى ابنته سلوى هنأها فيه بعيد ميلادها الـ18 وحدّثها عن الظلم الذي تعرض له والألم والهوان الذي ذاقه والمرارة التي تركت في «حلقه» بسبب أصدقائه.
لا أدري لماذا أجد نفسي اليوم مدفوعاً بقوة وعزيمة لأن أمسك القلم وأسطر لك بعض الصفحات؟
أيا ترى هل كان ذلك لتحقيق رغبتك في أن أكتب لك كما طلبتين مني ذلك بابتسامتك الرقيقة في إحدى زياراتك لي بالسجن منذ شهرين، أم يا ترى أنها مجرد محاولة عابرة لأن أهنئك بمناسبة عيد مولدك السعيد.
لقد كنت يا ابنتي عازماً على أن أحقق لك ما تبغين وما أيسره عندي، بل ما أسعد ذلك لديّ، ولم يمنعني أن أكتب لك طوال هذه المدة إلا انشغالي في الفترة السابقة لأجهز دفاعي ضد الافتراءات الصارخة التي حاولت السلطة أن تلصقها بي.
لقد كان في استطاعتي أن أنعم بالوسادة الناعمة كما فعل الآخرون.. ولكنني ارتضيت الوسادة الخشنة داخل السجن، واخترت الطريق الشاق حيث لا أملك معي إلا إيمان بالله وقوة الحق.. ويملك آخرون كل الأسلحة المادية التي استغلوها معي أسوأ استغلال.
ولكن ما أهون ذلك عندي وذلك فإنه حينما تبلى تلك الوسادة التي يتمرغون فيها وتنكشف الحقيقة فإنهم يصبحون لا شيء.. وحينئذ ينتصر الحق على الباطل. إن التاريخ لا يمكن أن يزيفه بشر لأنه ليس ملك لفرد أو جماعة بل هو ملك للبشرية جمعاء.
وفي الرسالة نفسها يتحدث صلاح نصر عن غدر أصحابه به وكيف أنهم كانوا اجتمعوا من قبل على هدف واحد هو إسعاد الشعب ولكن تفرقت بهم بعد ذلك السبل بسبب شهوة الحكم. واختتم رسالته بسورة «عبس».
الصيام والزكاة
وقبل هذه الرسالة وتحديداً في 5 ديسمبر 1968 الموافق 15 رمضان 1387هـ كتب رسالة إلى زوجته، قال فيها إنه يحرص على التعبد وطلب منها إخراج الزكاة عنه:
ما أجمل أن يقضي الإنسان وقته في التعبد والتقرب إلى الله يدعو له ولغيره بالهداية والتوفيق، ويسأله أن يحفظ أرض الكنانة من كل شر.
أرجو أن تخرجوا الزكاة عنى لأن الأطباء منعوني من الصيام لحالتي، ولا تنسي الزكاة التي ترسل في هذه المناسبة لبعض الناس.
اعتبرونى مسافر
وفي 16 ديسمبر 1967 كتب رسالة أخرى لزوجته وأبنائه طلب منهم أن يجتهدوا في دراستهم خاصة أنهم كانوا مقبلين على أداء الامتحانات، وألا يفكروا في أي شيء آخر، ويقول:
لا تفكروا في أي شيء فإن الله سبحانه وتعالى يرعانا جميعاً بعنايته الإلهية، والحمد لله فأنا كما تعرفون مؤمن بقضاء الله دائماً. اللهم انصر الحق، وبرئ كل مظلوم. كل شيء يهون في سبيل البلد، وفي سبيل الثورة التي هي قطعة مني مهما حدث لي.
أدعو لكم دائماً طوال الليل والنهار بأن يحفظكم الله من كل سوء وأن ينزل السكينة على قلوبنا في هذه الفترة. أرجو ألا تقلقوا أبداً واعملوا دائماً بالعبارة التي كنت أرددها لكم في أي ظرف «خليك مع الله»، واعتبروا أنني في سفر أو مأمورية.
لا أحتاج أي شيء آخر غير دعواتكم ووجودي معكم، وما علينا إلا الصبر كقول الله سبحانه وتعالى: «واصبر ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً».