”هزيمة الباشوات”.. يوم أن سحق الجيش المصري الأتراك وأسر منهم 2500 جندي
في 8 يوليو عام 1832، لقي الجيش التركي هزيمة نكراء على يد الجيش المصري في ارض الشام، وفرّ قواده وجنوده مدحورين مذعورين، كل منهم يبحث عن وسيلة للهرب من الموت.
فى كتابه "التاريخ الحربى لعصر محمد على الكبير"، يذكر الدكتور عبد الرحمن زكي، أن إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا كان يواصل فتحه لسوريا وانتزاعها من السلطان العثماني، وتحققت له السيطرة على عكا وصور وصيدا وبيروت وطرابلس فى الشمال.
وفى 16 يونيو 1832 دخل إبراهيم دمشق، وقابله أهلها بفرح واغتباط، وجعلها مقر الحكومة المصرية فى الشام ورتب الإدارة فيها على نسق جديد، وعين عليها إبراهيم يكن باشا حاكما، واضطر أن يضيع أسبوعين فى دمشق بسبب الأنباء التى جاءته بانتشار الكوليرا فى حمص حرصا على سلامة جنده، ولم يبدد هذه الأيام هباء، إذ راح يعد العدة لأسباب التقدم، ويدرب جنده على ذلك.
الحفلة القاتلة
وفى صبيحة يوم 7 يوليو 1832 وصل القائد التركى محمد باشا بجيشه إلى حمص، وكان يثق بالانتصار على خصمه "إبراهيم وفلاحيه" كما كان يذكر الجنود المصريين.
وبينما اقتنع أنه فى مأمن من جنود إبراهيم، أجل إلى الغد خططه وتدابيره وبدأ يستعد لتشريف الحفلة الأنيقة التى أعدها والى حلب تكريما لشخصه ولضباطه، وهى الحفلة القاتلة بالنسبة له.
ففي هذه الحالة، نعم القائد التركى بما لذ وطاب مما تشتهيه النفس من أنواع الطعام العثمانى، وألوان الشراب السورى، وكان جنده وقد غادروا مخيمهم يتضورون جوعا فى أسواق المدينة يخطفون الخبز وشرائح اللحم كلما وصلت إليه أيديهمز
وبينما كان الجيش التركى وقيادته وضباطه على هذا الحال، كانت وحدات الجيش المصرى تجتاز مسافة طويلة وصارت على مسيرة خمس ساعات من حمص.
سحق الأتراك
ويقدر "زكي" في كتابه قوام الجيش المصرى بنحو 30 ألف مقاتل، يضاف إليهم البدو غير النظاميين، وقد تناقل المعسكران المعلومات بواسطة عيونهما، فأدرك محمد باشا، وسط ضجيج الحفل والمرح تحرج الموقف، فجمع كبار ضباطه لتقرير المصير، وهنا ارتأى البعض أن الأصوب التقهقر المنظم إلى موقع آخر بينما فضل آخرون التحرك والقضاء على الجيش المصرى، واختار القائد التركى محمد باشا التحرك والمواجهة، وفى الصباح المبكر يوم 8 يوليو 1832 أزال معسكره ونشر قواته قبالة جنوبى المدينة أمام مزارعها ووزع جيشه فى صفوف ثلاثة.
بلغ القتال عنفوانه فى الساعة الخامسة مساء، ويصف زكى سير المعارك، قائلًا إن المدفعية المصرية تقذف نيرانها الشديدة على صفوف الأتراك، فتسدد إصاباتها بكل دقة وإحكام، وترد عليها مدفعية الأتراك بدون خطة محددة، وتتبعثر طلقاتها هنا وهناك.
ووصلت المعركة إلى لحظاتها الفاصلة، ورأى إبراهيم أن يستهل الهجوم الساحق، فأمر آلايات (فرق) الفرسان 2 و3 و4 ومكانها على صفوفه بالزحف شرقا، لتقوم بحركة الالتفاف حول ميسرة الترك، وتولى بنفسه قيادة هذه الحركة لأن على نجاحها يتوقف مصير المعركة.
فوضى وذعر وأسرى
أسدل الليل ستاره، وعمت الفوضى والهزيمة والذعر صفوف الجيش التركي، وصمت القتال وتقدم إبراهيم على رأس جيشه محتلا المواقع التى أخلاها الترك.
بادر إبراهيم باشا فأرسل إلى أبيه محمد علي باشا ينبئه بهذا النصر الكبير الذى عرف عند المصريين بيوم "هزيمة الباشوات"، وكانت خسائر الترك جسيمة، ألفين قتلى وألفين وخمسمائة أسير، واستولى المصريون على عشرين من مدافعه علاوة على ذخائره وعتاده، أما خسائر المصريين فلم تزد عن 102 من القتلى و162 من الجرحى.
رفع إبراهيم تقريرا عن المعركة إلى أبيه قال فيه: لم أر فى حياتى هزيمة كهزيمة العدو، فإنى لا أغالى إذا قلت إنه لو زحف على مئتا ألف أو ثلاثمائة ألف من عساكره لما نبض لى بسببهم نبض أو اكترثت بهم ونحن بمشيئة الله ظافرون بأولئك العسكر أينما وجدوا، وقد أرسلنا الأسرى إلى عكا وأمرنا ديوان أفندى بأن يقبل فى التقاعد كل من يريد تسجيل اسمه فيه، ويرسل من يرغب فى العودة إلى وطنه إليه فى مصر أو غيرها، وبلغ عدد القتلى منا 102 والجرحى 162 وخسرنا 172 جوادا.
فى اليوم التالى 9 يوليو 1832 دخل المصريون حمص، بينما كان الترك يفرون صوب حلب وأنطاكية.