آخر دعاء للشهيد علي عبدالناصر ورجاله.. تفاصيل ليلة إعدام سيد قطب
المكان: سجن الاستئناف العمومي بباب الخلق..
الزمان: صباح الأحد 28 أغسطس عام 1966.
المشهد: العلم الأسود يرفرف فوق أكبر سارية بسجن الاستئناف..
هذا المشهد لا يشير إلا لشيء واحد.. يعرفه الناس جيدا برؤية العلم الأسود.. حكم بالإعدام سينفذ هذا الصباح..
الحكم هذه المرة.. جزء من تاريخ مصر المعاصر.. بل هو من رموز هذا العصر.. وقد يمتد أثره إلي عصور تاريخية تالية.. وقد يلعب دورا في أحداثها ومجرياتها.. لذلك قررت الدولة أن ينفذ هذا الحكم سراً.. كيلا تهيج المشاعر الإنسانية في الشارع المصري والعربي علي حد سواء.. وحرصا علي ألا تبالغ وكالات الأنباء التي ترقبه.. وتترقبه في نقل وصفه إلي العالم بأسره.. والسبب الأهم هو وضع بعض رؤساء الدول _ الذين يتدخلون بين ساعة وأخري لمنع تنفيذ هذا الحكم بأي ثمن - أمام الأمر الواقع فلا يبقي أمامهم سوي الدعاء بالرحمة علي الفقيد بعد إعدامه..
وصدرت الأوامر حاسمة وقطعة إلي كل وسائل الإعلام بعدم إبراز أخبار هذا الحكم..!! بل كان بعض الصحفيين لا يعرفون أن الحكم قد نفذ إلا بعد إتمام الإعدام بساعات طوال.. لكن بعض أصحاب "الحظوة" يتمكنون من حضورتنفيذ حكم الإعدام.. بشرط أن يخرج كل منهم من مبني السجن لا يسمع، لا يري، لا يتكلم..!
أحد كبار الصحفيين كان خائفا من أن يروي عشماوي لأقاربه بعض ما حدث.. فلا تجد الدولة من تتهمه بترويج الخبر وأحداثه سوي هذا الصحفي.. وقتها قد يدفع حياته.. الثمن.. لذلك كان حريصا علي مصادقة عشماوي.. والتقرب إليه.. ونيل رضاه.. وفي كل لقاء بينهما كان ينصح عشماوي بألا يفشي شيئا من أسرار مهنته.. كي لا يعدمونه.. كل ما كان يخشي منه الصحفي كان يحذر ويخيف عشماوي منه.. لا يختلف اثنان من زملاء ومعارف هذا الصحفي علي أنه نقيب البخلاء في المهنة رغم ثرائه.. ولم يختلف اثنان أيضا علي أنه كان في قمة الكرم مع عشماوي.
> أمام حجرة الإعدام كانت اللحظات الأخيرة..
نودي علي المتهم.. الاسم: سيد قطب ابراهيم..
العمر: 60 عاما..
المهنة: أستاذ سابق وعالم من خيرة علماء المسلمين..
التهمة: محاولة قلب نظام الحكم..
> عقارب الساعة تتحرك ببطء بالغ..
الرجل المحكوم بإعدامه يبدو أشجع ممن حوله وكأن الموت يفر منه رعباً بينما هو مقبل عليه.. كانت المرة الأولي، ربما ايضا الأخيرة.. التي شوهد فيها عشماوي كرجل بلا قلب.. إنه لا يمارس مهنته كما اعتاد.. إنه الآن مكره علي تنفيذها.. أول مرة يتصادف فيها أن يقوم عشماوي بإعدام شخص يعرفه.. بل يعرفه عن قرب.. دون أن يلتقي به من قبل.. كان يسمع عنه من أقاربه ومعارفه وأصدقائه.. يحفظ شكله دون أن يراه.. يعرف أسماء كتبه وكأنه قد وقع له عليها بإهداء خاص!.. شيء صعب، بل مرير، أن تقتل رجلاً تحترمه بيدك.. أصعب منه أن ينظر إليك هذا الرجل مبتسما وأنت تلف حبل المشنقة حول عنقه.. كما كانت نظرات سيد قطب إلي عشماوي لحظة الإعدام.!!
> لكن لحظة الإعدام لم تأت مسرعة..
لابد بعد تلاوة الحكم وأسبابه.. من حديث الواعظ الذي تنتدبه وزارة الأوقاف.. إلي المتهم قبل لحظات من إعدامه.. طلب الواعظ من سيد قطب أن يتلو الشهادتين.. أشهد أن لا إله إلا الله.. وأشهد أن محمدا رسول الله.. ولكن سيد قطب يبتسم في بشاشة وهو يربت علي كتف الواعظ قائلا:
- وهل تري يا أخي أني جئت إلي هنا.. إلا من أجل تلك الكلمات؟
ويكاد الواعظ أن يخر مصعوقا أمام العالم الأكبر والداعية الإسلامي الأشهر.. بهت لون الواعظ.. اصفر وجهه.. تحشرج صوته.. تاهت كل الكلمات فوق لسانه.. تمتلئ ملامحه وصوته بالخجل.. تضاءل أمام نفسه فجأة.. ولم ينقذه سوي نظرات حانية عطوفة من عين الشيخ العالم.. وابتسامة رضا حاول بها أن يخفف من آلام ومتاعب رده علي واعظ الأوقاف قليل الحيلة والعلم.. أمام علوم سيد قطب.!
> ممثل النيابة يختتم حديثه هو الآخر بجملة تقليدية:
ـ نفسك في حاجة؟
لكن الشيخ العالم لم يطلب شيئا.. لا شيء في تلك اللحظة يعادل حلاوة اللقاء مع الخالق.. لذلك كان سيد قطب حريصا علي أن يلبي النداء إن لم يكن قبل موعده بلحظة.. ففي لحظة موعده بالضبط.. كل هذه الإجراءات كانت تضايقه.. لأنها تؤخره عن موعد الحب الأكبر.. واللقاء العظيم بملك الملوك.
وتقدم سيد قطب نحو المكان الذي سينتهي فيه أجله الدنيوي، كان يعرف أن الحجرة التي يدخلها بساقه الآن.. آخر ما تشاهده عينه.. وفيها ستصعد روحه إلي السماء.. ليخرج بعدها من نفس الحجرة جثة لا نبض فيها..
لكنه كان واثق الخطي.. رابط الجأش.. قوي الأعصاب.. في قمة تركيزه واتزانه.. وفي مثل هذا الموقف فإن عين المحكوم عليه بإعدامه تقع أول ما تقع علي الحبل المفتول الذي يتدلي من سقف المشنقة.. لكن "الحبل" المشئوم لم يكن هدفا لنظرات سيد قطب.. بل انشغاله بالشهادتين همساً كان قد نقله إلي عالم آخر يختلف كثيراً عن عوالم المحيطين به..
> لم تكن مصر تشعر بشئ.. وكم عاشت مصر مع حكامها كالزوج المخدوع "آخر من يعلم"!
الصحف الصادرة صباح هذا اليوم غارقة لشوشتها في أخبار سباق القناة الدولي للسباحة.. ولقاءات واجتماعات زعيم هذا العصر جمال عبدالناصر.
الغريب أن خبرا واحدا مما نشرته كل صحف ومجلات مصر في هذا الصباح لم يقترب خطوة من سجلات وصحف التاريخ "الحقيقي" لمصر.. بينما خبر إعدام سيد قطب بكل ثقله التاريخي تتجاهله الصحف التي لم تستطع في نفس هذا الصباح إلا أن تنشر خبراً بالصفحة الأولي عن وفاة شرطي في حادث هجوم علي سفارة فرنسا بالقاهرة أثناء جهاده في مقاومة الطلبة الصوماليين !!.. وكأن وفاة العسكري عبدالمنعم أحمد عوض من فرق أمن الجيزة.. أهم وأكثر إثارة للقارئ المصري من خبر إعدام أكبر داعية إسلامي في هذا الوقت.. أو أن جهاد الشاويش عبدالمنعم في مقاومة الطلبة الصوماليين أفضل منزلة من جهاد المفكر الإسلامي الشهير في مقاومة أعداء الإسلام والدعوة لدينه الحنيف..!
> "المانشيت" الرئيسي لجريدة الأخبار كان يقول بالحرف الواحد: "فاز حنفي بسباق القناة الدولي".. ثم تفاصيل الخبر وصورة لبطل السباق علي ثلاثة أعمدة.. في الصفحة الثانية خبر كبير علي ستة أعمدة يقول: "ثوار فيتنام أغرقوا سفينتين حربيتين أمريكيتين ونسفوا كاسحة ألغام في سايجون".. وعلي الصفحة الثالثة تحقيق علي ثمانية أعمدة كتبه صلاح قبضايا تحت عنوان "قذائف من الجو إلي الأعماق وأسلحة صاروخية مضادة للغواصات".. وأسفل الصفحة إعلان عن فيلم "سانجام" الهندي.. أما الصفحة الرابعة فقد امتلأت بتحقيق كبير عن مصيف رأس البر.. والخامسة يتصدرها موضوعان الأول: عن جيوش الفئران التي تهدد الإنتاج الزراعي في الفيوم.. والثاني: عن مطاردة مهنة "حلاق الصحة" في محافظة البحيرة.. والصفحة الرابعة تقدم خبرها الرئيسي الذي كتبه جميل جورج تحت عنوان يقول: "40 دولة تشترك في سوق القاهرة الدولي".. ومحمد زكي عبدالقادر - رحمه الله - يكتب عموده اليومي "نحو النور" عن تشجيع الالتحاق بمراكز التدريب المهني.. ثم الصفحة الثامنة عن سباق القناة الدولي.. كتب الصفحة دسوقي عثمان تحت عنوان: "حنفي الأول - جامع الثاني - وليامز الثالث".. سمير شديد أول الهواة وسامية مندور أولي السيدات.. ثم الصفحة التاسعة التي يقدم من خلالها رشدي صالح "أخبار الفن" تحمل موضوعا رئيسيا بعنوان: "ليلي رستم ترد علي الهجوم الليلة".. أما الكاتب الساخر جليل البنداري فقد كتب عموده هذا العدد عن وحشة القاهرة له وهو في بيروت.. وأن أكثر الأشياء التي وحشته فيها الجلابيب البلدي والطواقي والملاءات اللف وسلطانية الطرشي ومواويل محمد طه.. وفي الصفحة العاشرة موضوع كبير علي خمسة أعمدة أختير "مانشيتا" للصفحة، كتبه نبيل عصمت من بيروت بعنوان "ملكة جمال العرب".. نجحت الفكرة وفشل المهرجان.. الصفحة قبل الأخيرة "الوفيات" والصفحة الأخيرة تتصدرها صورة من أعياد البحرية علي أربعة أعمدة.. ويوميات الأخبار بعنوان "هل يخلع أوثانت الحذاء الذي يؤلم قدمه" بقلم حسين فهمي.. وعمود مواقف لأنيس منصور كتبه في هذا الصباح عن إحدي زياراته لألمانيا..
هكذا كانت الأخبار الرئيسية الهامة في جريدة الأخبار صباح 26 أغسطس 1966؟ وجعلت خبر إعدام سيد قطب علي الصفحة السادسة علي مساحة عمود في أقصي يسار الصفحة.. في مكان غير ظاهر بالمرة.. وكتبت الخبر في أربعة أسطر فقط.. قالت في عنوان الخبر:
"تنفيذ حكم الإعدام"..
ثم فصلت العنوان المبهم مكتفية بثلاثة أسطر:
- "نفذ فجر اليوم حكم الإعدام في كل من سيد قطب إبراهيم ومحمد يوسف هواش وعبدالفتاح إسماعيل"..
لاحظ أن الجريدة قالت: إن الإعدام تم فجر يوم 29 أغسطس بينما تم قبل ذلك بأربع وعشرين ساعة.. الطريف أن الجريدة نشرت في العمود المواجه لخبر إعدام سيد قطب خبراً واضحاً عن فيلم "امرأة من نار".. ونشرت أسفل خبر إعدام سيد قطب إعلانا عن فيلم "الأصدقاء الثلاثة".. ولم تكن تقصد الجريدة - قطعا - أي تلميح أو إشارة إلي إعدام سيد قطب وصديقيه.. اللافت للنظر أن الصفحة الأخيرة صدرت بغير عمود "فكرة" الذي يكتبه الراحل الكبير علي أمين.. لأن الدولة كانت قد اعتقلت مصطفي أمين قبل هذا اليوم بأسابيع قليلة واضطر توأمه ألا يعود من رحلته إلي لندن..
> لم يكن هذا هو حال جريدة الأخبار وحدها..
بل ربما كانت جريدة الأخبار أفضل حالا من باقي الصحف الصادرة نفس هذا اليوم.. ولم يكن هذا التجاهل الغريب من وضع وسائل الإعلام.. لكن القيادة السياسية أمرت بألا يكون للإعلاميين أي حق في مناقشته..
> لم يكن الشعب المصري يدري بما حدث..
الناس يمارسون حياتهم الطبيعية.. الحذر هو السمة الغالبة علي أفراد الشعب المصري.. لا أحد يتحدث في السياسة.. الأخ لا يأتمن أخاه.. والصديق يشك في صديقه.. ووظيفة "المرشد" كان يشغلها أقرب المقربين إليك.. النكتة السياسية هي فاكهة أي حديث بين اثنين في الشارع المصري حينئذ.. معظم النكات كان بطلها رئيس الدولة في نفس الوقت.. وقادته من أهل الثقة.. من بين النكات التي أعجبت عبدالناصر شخصيا أن الشعب كله أصبح يرفع شعار "ارفع صوتك كما تريد يا أخي ما دام أن ذلك يتم في سرك".. لو كان الشعب يعرف في ذلك اليوم أن حكم الإعدام قد نفذ في سيد قطب لأخرج كل مراراته الوجدانية في نكات سياسية.. أشد التهابا من مقالات الصحفيين التي لم تنشر.. لأنها لم تكتب أصلا..!!
> ولم يكن سيد قطب نفسه حريصا علي أن يشعر أحد بإعدامه.. لإيمانه المطلق بأن مماته وحياته في يد ملك واحد يراقب الأحداث من فوق سبع سماوات.. كان سيد قطب حريصا علي شيء واحد.. هو عظمة اللقاء.. الذي يؤمن إيمانا راسخا بأنه لقاء القمة.. لأن قمة اللقاء مع ملك الملوك لا تكون إلا إذا كان الضيف القادم من الأرض من الأنبياء أو الرسل أو الشهداء أو الأولياء الصالحين.
"واقتربت لحظة الإعدام"
> كل شيء جاهز، ومعد تماماً..
الصمت الرهيب يسود الحجرة.. الجدران تبدو كما لو كانت قد تقوضت من رهبة اللحظة التاريخية.. الحبل يتدلي من سقف المشنقة، قويا، مفتولا،.. مستديرا من أسفله حول الرقبة.. ذراع المشنقة التي يحركها عشماوي لتقصف بأجل العلماء أشرفوا عليها أكثر من مرة للتأكد من أنها قادرة علي تنفيذ المهمة بنجاح ودقة.!
دخل سيد قطب الحجرة مرفوع الرأس.. كان مطيعا لأوامر وتوجيهات عشماوي وهو يتقدم لارتداء "الطاقية" القاتمة التي تخفي وجه المحكوم بإعدامه حتي تسلم روحه.. هكذا يتخيل المشرفون علي أحكام الإعدام.. وواضعو لوائحها.. إنهم يراعون مشاعر وآدمية "الإنسان" الذي يعدمونه..!!!
> وقبل أن يرتدي سيد قطب "الطاقية" قاتمة اللون.. همس بكلمات سريعة.. أشبه بالدعاء.. كاد عشماوي يرتعد وهو يسمعها تتقاذف واحدة تلو الأخري من فم سيد قطب.. كلمات بسيطة سمعها عشماوي آلاف المرات.. لكنها في أذنيه الآن كما لو كان يسمعها لأول مرة.. فالمعاني التي تحملها لها معان ومفاهيم أخري.. أكثر رهبة وفزعا من الموقف الذي يعيشه الآن.. سأل الصحفي الكبير عشماوي وألح عليه أن يعرف ماذا قال سيد قطب في تلك اللحظة الأخيرة من عمره.. فضوله الصحفي منعه من أن ينصرف حتي عرف ماذا قال سيد قطب بعد أن التف حبل المشنقة حول عنقه.. وتأمل الصحفي الكبير آخر سبع كلمات قالها الداعية الإسلامي:
- "اللهم اجعل دمي لعنة في عنق عبدالناصر"..
ولكن الصحفي الكبير لم يستطع أن ينشر كلمة واحدة من الكلمات السبع.. وإن كان يردد دائما حتي وفاته.. أنه لم يعش في حياته أبشع من مشهدين.. إعدام سيد قطب وجثمان السادات في مشرحة المعادي..!
ويقابل الصحفي الكبير في نفس اليوم، وبعد ساعتين من تنفيذ حكم الإعدام صديقه الكاتب الصحفي المعروف حامد دنيا.. تم اللقاء في أحد الأجهزة الإعلامية.. عندما حكي الصحفي الكبير لصديقه عن قوة شخصية سيد قطب وعظمته الإيمانية وهم يشنقونه.. قال له الصديق إن ذلك كان متوقعا من رجل مثله.. وحينما أضاف الصحفي الكبير العبارة التي قالها سيد قطب وكانت آخر ما نطق به لسانه قبل الشهادتين الأخيرتين.. ملأ الفزع ملامح الصديق وتمتم وعيناه سارحتان:
- "سترك يا رب.. اللهم الطف بعبادك"..!
"الإعدام"
> كان يمكن لسيد قطب إنقاذ روحه.. لو تقدم بالتماس إلي رئيس الجمهورية - إجراء أشبه بالاعتذار الرسمي توحي به الحكومة بعد إصدار أحكام بإعدام من تراهم من أعدائها.. لتذلهم أمام أنفسهم وأمام الشعب.. أو هو من باب "كسر العين" لزعماء مناهضيها - هذا الالتماس تقدم به إخوان كثيرون لسيد قطب وبعضهم خففت عقوبته بالفعل من الإعدام إلي الأشغال الشاقة.. لكن سيد قطب رفض أن يلتمس حياته من جمال عبدالناصر.. فالحياة عنده تعني شيئا آخر مختلفا تماما عن الحياة عند عبدالناصر.!
ورفض مع سيد قطب أيضا اثنان من إخوانه.. تم إعدامهما بعد إعدام سيد قطب بخمس دقائق فقط.. هما محمد يوسف هواش وعبدالفتاح إسماعيل.. ورفض الثلاثة أن يستذلوا أنفسهم من أجل حياة هم علي يقين من أنها لا تعادل جناح بعوضة عند خالقها سبحانه وتعالي.. كانوا يعرفون أن المحكمة التي حاكمتهم برئاسة "الدجوي" كانت أظلم المحاكم في التاريخ.. تتلقي الأحكام بالمكالمات التليفونية الآمرة.. وتعلنها في جلسات تصفها بأنها علنية.. الثلاثة يعرفون أن الظلم يوم القيامة ظلمات.. وما تكبدوه وعانوه شيء أفظع من الظلم.. ربما عقدت له يوم القيامة المحاكم الخاصة أيضا.. الثلاثة يعرفون أن الشعب لا يثق في المحاكم الاستثنائية والعسكرية.. لأنها محكومة قبل أن تكون حاكمة.. بل إن الشعب أصبح يستشعر براءة المجني عليهم من قرار إحالتهم إلي المحاكم العسكرية.. خاصة كالتي يرأسها الدجوي.. وكانت أحكامها علي كل لسان قبل النطق بها.. وتماما كما يحدث في فوازير نيللي.. وأسئلة الامتحانات ببعض المعاهد والمدارس.. الشعب لا يطمئن إلا لقضائه العادي.. الاستثناء يعني التحيز لشيء ما.. والمحاكم الاستثنائية تشكلها الدولة وتعين قضاتها.. فلا يمكن أن تنحاز لغير الدولة التي هي أحد أطراف القضايا التي تنظرها دائما.. فلا يشعر الشعب المصري يوما واحدا ولا حتي ساعة واحدة.. بأن القاضي العسكري هو ظل الله علي الأرض.. ورمز العدالة وإن كان هذا الإحساس ينتابه علي الدوام كلما وقف أمام قاضيه الطبيعي..
ولأن في مصر قضاة.. وتاريخ ومجد القضاء المصري يؤكد أنه كان الحصن الحصين المنيع للعدالة علي مر العصور.. فقد خشيت الدولة من إحالة قضية سيد قطب وإخوانه إلي القضاء العادي.. لأنه ربما أظهر حقيقة وبراءة هؤلاء وتقضي بعقاب من قدموهم إلي المحكمة وسط مظاهرة من الأدلة الكاذبة.!!
أخيرا تدلي الجسد الطاهر النحيل من حبل المشنقة..
ظنت القيادة السياسية أنها أعدمت المد الإسلامي.. وخنقت فكر الإخوان.. وشنقت عقلهم المفكر.. الشيء الوحيد المؤكد.. هو أن الذي أعدم وشنق هو جسد سيد قطب، وليس المد الإسلامي أو فكر الإخوان وعقلهم المفكر.. الحاكم الديكتاتور يمكنه تعذيب الأجساد وإعدامها أينما وحيثما شاء.. ولكنه يعجز عن مقاومة "الفكر".. العقيدة تتغلب دائما.. تصبح أقوي من بطش الحاكم الديكتاتور.. وقد تصيبه بالجنون وحرق الدم أو تعجل بنهايته دون أن تحدث وتموت هي من بطشه أو تحرقها ناره.. الحكام دائما إلي زوال.. والفكر والعقيدة يعيشان علي مر العصور..
"كارثة"
> هل كانت السماء غاضبة إلي هذا الحد؟
لم تمض سويعات قليلة علي تنفيذ حكم الإعدام في الشهداء الثلاثة حتي كانت السماء ترد بعنف بالغ.. وتضيء النور الأحمر في مظاهرة احتجاج مثيرة.. هطلت الأمطار والثلوج في عز الصيف.. بينما كان الجو جحيما لا يطاق منذ اليوم الأول من أغسطس وحتي لحظة إعدام سيد قطب.. الصهد يشع من الأرض والعرق يبلل الوجوه.. ونار تتأجج في الأبدان.. فجأة تكهرب الجو.. تناثرت قطعات الثلج من السماء وكأنها تقذفها علينا.. وترجمنا بها.. دفاعا عن سيد قطب وحبا لإيمانه وثقته وبراءته.. ويشعر الصحفي الكبير بالذعر يملؤه.. ويسيطر عليه كلما سري إلي مسامعه اندفاع قطعات الثلج وارتطامها بزجاج سيارته.. لا يختلط مع هذا الصوت غير نبرات سيد قطب وهي تردد دعاءه الأخير قبل لحظة إعدامه.. والذي قاله في سبع كلمات فقط.. وفي اليوم التالي أقيمت صلاة الغائب علي روح سيد قطب في معظم الدول العربية.. وقال أحد كبار السياسيين في تونس لإحدي الصحف الغربية:
. إن الله سينتقم لهذا العالم من هذا الحاكم..!
"النكسة !!"
> لم تمض أسابيع علي إعدام سيد قطب ورجالات الإخوان المسلمين.. حتي مرض عبدالناصر مرضه الخطير.. لتبدأ سلسلة من الأزمات والنكسات تحل بمصر واحدة تلو الأخري بينما كان قادة مصر يزلزلون العروش ويشجعون الثورات.. والانقلابات.. ويتحدون الإمبريالية العالمية.. ويهددون بإلقاء إسرائيل في البحر..
> سافر عبدالناصر سرا للعلاج في تسخالطبو بروسيا..
وأخفي الإعلام المصري، حقيقة مرض عبدالناصر.. وتعمدوا التأكيد علي أن صحة عبدالناصر «عال العال» كيلا يدعوا فرصة لشماتة الشامتين.. ولم يكتف القدر بعذاب المرض لعبدالناصر.. بعد تسعة شهور من إعدام سيد قطب كانت نكسة 1967 المريرة.. مصريا وعربيا.. وأكبر هزيمة سياسية لعبدالناصر دفعته إلي التنحي عن الحكم والاستسلام للروس.. في يوم التنحي وقف "علال الفاسي" وهو أحد السياسيين المعروفين في المغرب.. ومن قادة أحزابها وأشهر مناضليها.. وقف علال الفاسي وقال في خطبة حماسية شهيرة:
"ما كان لله حاشا وتعالي - أن ينصر قاتل سيد قطب"..!
وما كاد عبدالناصر يفيق من العار السياسي الكبير حتي كانت أزمته الكبري مع صديق عمره عبدالحكيم عامر وتبادلهما الاتهامات بالخيانة حتي مات الصديق مقتولا أو منتحرا.. وبقي عبدالناصر وحيدا أمام كل هذه النكبات.. إلا أن وحدته لم تدم طويلا.. أسلم الروح بعد ثلاث سنوات من إعدام سيد قطب.. عاني فيها آلام المرض وعار الهزيمة وفقد الصديق واليأس من الحياة.. لم يذق فيها طعم السعادة أو الرضا يوما واحدا.. بل إن مصر كلها دفعت الثمن معه.. فإن كانت أحكام القضاء التي توالت بعد حكم السادات في قضايا التعذيب.. تؤكد أن الإخوان قد لاقوا ذلاً وهواناً من الحكومة المصرية لا يليق بآدمية الإنسان.. فمعني هذا أن الظلم الذي وقع عليهم.. وثبت من خلال الأحكام.. كان لابد أن تنتقم له السماء بعد أن جاوز حدود البشر..
ولم يمت سيد قطب رغم كل ذلك..
مازالت كتبه تملأ المكتبات حتي الآن.. بينما اختفت صورة عبدالناصر ومسحت خطبه وتتجاهل سيرته نفس الصحف والمجلات.. بل إن الذين هللوا لإعدام سيد قطب هم أنفسهم ا الذين قالوا في عبدالناصر أبشع مما قال مالك في الخمر.!!
الزمان: صباح الأحد 28 أغسطس عام 1966.
المشهد: العلم الأسود يرفرف فوق أكبر سارية بسجن الاستئناف..
هذا المشهد لا يشير إلا لشيء واحد.. يعرفه الناس جيدا برؤية العلم الأسود.. حكم بالإعدام سينفذ هذا الصباح..
الحكم هذه المرة.. جزء من تاريخ مصر المعاصر.. بل هو من رموز هذا العصر.. وقد يمتد أثره إلي عصور تاريخية تالية.. وقد يلعب دورا في أحداثها ومجرياتها.. لذلك قررت الدولة أن ينفذ هذا الحكم سراً.. كيلا تهيج المشاعر الإنسانية في الشارع المصري والعربي علي حد سواء.. وحرصا علي ألا تبالغ وكالات الأنباء التي ترقبه.. وتترقبه في نقل وصفه إلي العالم بأسره.. والسبب الأهم هو وضع بعض رؤساء الدول _ الذين يتدخلون بين ساعة وأخري لمنع تنفيذ هذا الحكم بأي ثمن - أمام الأمر الواقع فلا يبقي أمامهم سوي الدعاء بالرحمة علي الفقيد بعد إعدامه..
وصدرت الأوامر حاسمة وقطعة إلي كل وسائل الإعلام بعدم إبراز أخبار هذا الحكم..!! بل كان بعض الصحفيين لا يعرفون أن الحكم قد نفذ إلا بعد إتمام الإعدام بساعات طوال.. لكن بعض أصحاب "الحظوة" يتمكنون من حضورتنفيذ حكم الإعدام.. بشرط أن يخرج كل منهم من مبني السجن لا يسمع، لا يري، لا يتكلم..!
أحد كبار الصحفيين كان خائفا من أن يروي عشماوي لأقاربه بعض ما حدث.. فلا تجد الدولة من تتهمه بترويج الخبر وأحداثه سوي هذا الصحفي.. وقتها قد يدفع حياته.. الثمن.. لذلك كان حريصا علي مصادقة عشماوي.. والتقرب إليه.. ونيل رضاه.. وفي كل لقاء بينهما كان ينصح عشماوي بألا يفشي شيئا من أسرار مهنته.. كي لا يعدمونه.. كل ما كان يخشي منه الصحفي كان يحذر ويخيف عشماوي منه.. لا يختلف اثنان من زملاء ومعارف هذا الصحفي علي أنه نقيب البخلاء في المهنة رغم ثرائه.. ولم يختلف اثنان أيضا علي أنه كان في قمة الكرم مع عشماوي.
> أمام حجرة الإعدام كانت اللحظات الأخيرة..
نودي علي المتهم.. الاسم: سيد قطب ابراهيم..
العمر: 60 عاما..
المهنة: أستاذ سابق وعالم من خيرة علماء المسلمين..
التهمة: محاولة قلب نظام الحكم..
> عقارب الساعة تتحرك ببطء بالغ..
الرجل المحكوم بإعدامه يبدو أشجع ممن حوله وكأن الموت يفر منه رعباً بينما هو مقبل عليه.. كانت المرة الأولي، ربما ايضا الأخيرة.. التي شوهد فيها عشماوي كرجل بلا قلب.. إنه لا يمارس مهنته كما اعتاد.. إنه الآن مكره علي تنفيذها.. أول مرة يتصادف فيها أن يقوم عشماوي بإعدام شخص يعرفه.. بل يعرفه عن قرب.. دون أن يلتقي به من قبل.. كان يسمع عنه من أقاربه ومعارفه وأصدقائه.. يحفظ شكله دون أن يراه.. يعرف أسماء كتبه وكأنه قد وقع له عليها بإهداء خاص!.. شيء صعب، بل مرير، أن تقتل رجلاً تحترمه بيدك.. أصعب منه أن ينظر إليك هذا الرجل مبتسما وأنت تلف حبل المشنقة حول عنقه.. كما كانت نظرات سيد قطب إلي عشماوي لحظة الإعدام.!!
> لكن لحظة الإعدام لم تأت مسرعة..
لابد بعد تلاوة الحكم وأسبابه.. من حديث الواعظ الذي تنتدبه وزارة الأوقاف.. إلي المتهم قبل لحظات من إعدامه.. طلب الواعظ من سيد قطب أن يتلو الشهادتين.. أشهد أن لا إله إلا الله.. وأشهد أن محمدا رسول الله.. ولكن سيد قطب يبتسم في بشاشة وهو يربت علي كتف الواعظ قائلا:
- وهل تري يا أخي أني جئت إلي هنا.. إلا من أجل تلك الكلمات؟
ويكاد الواعظ أن يخر مصعوقا أمام العالم الأكبر والداعية الإسلامي الأشهر.. بهت لون الواعظ.. اصفر وجهه.. تحشرج صوته.. تاهت كل الكلمات فوق لسانه.. تمتلئ ملامحه وصوته بالخجل.. تضاءل أمام نفسه فجأة.. ولم ينقذه سوي نظرات حانية عطوفة من عين الشيخ العالم.. وابتسامة رضا حاول بها أن يخفف من آلام ومتاعب رده علي واعظ الأوقاف قليل الحيلة والعلم.. أمام علوم سيد قطب.!
> ممثل النيابة يختتم حديثه هو الآخر بجملة تقليدية:
ـ نفسك في حاجة؟
لكن الشيخ العالم لم يطلب شيئا.. لا شيء في تلك اللحظة يعادل حلاوة اللقاء مع الخالق.. لذلك كان سيد قطب حريصا علي أن يلبي النداء إن لم يكن قبل موعده بلحظة.. ففي لحظة موعده بالضبط.. كل هذه الإجراءات كانت تضايقه.. لأنها تؤخره عن موعد الحب الأكبر.. واللقاء العظيم بملك الملوك.
وتقدم سيد قطب نحو المكان الذي سينتهي فيه أجله الدنيوي، كان يعرف أن الحجرة التي يدخلها بساقه الآن.. آخر ما تشاهده عينه.. وفيها ستصعد روحه إلي السماء.. ليخرج بعدها من نفس الحجرة جثة لا نبض فيها..
لكنه كان واثق الخطي.. رابط الجأش.. قوي الأعصاب.. في قمة تركيزه واتزانه.. وفي مثل هذا الموقف فإن عين المحكوم عليه بإعدامه تقع أول ما تقع علي الحبل المفتول الذي يتدلي من سقف المشنقة.. لكن "الحبل" المشئوم لم يكن هدفا لنظرات سيد قطب.. بل انشغاله بالشهادتين همساً كان قد نقله إلي عالم آخر يختلف كثيراً عن عوالم المحيطين به..
> لم تكن مصر تشعر بشئ.. وكم عاشت مصر مع حكامها كالزوج المخدوع "آخر من يعلم"!
الصحف الصادرة صباح هذا اليوم غارقة لشوشتها في أخبار سباق القناة الدولي للسباحة.. ولقاءات واجتماعات زعيم هذا العصر جمال عبدالناصر.
الغريب أن خبرا واحدا مما نشرته كل صحف ومجلات مصر في هذا الصباح لم يقترب خطوة من سجلات وصحف التاريخ "الحقيقي" لمصر.. بينما خبر إعدام سيد قطب بكل ثقله التاريخي تتجاهله الصحف التي لم تستطع في نفس هذا الصباح إلا أن تنشر خبراً بالصفحة الأولي عن وفاة شرطي في حادث هجوم علي سفارة فرنسا بالقاهرة أثناء جهاده في مقاومة الطلبة الصوماليين !!.. وكأن وفاة العسكري عبدالمنعم أحمد عوض من فرق أمن الجيزة.. أهم وأكثر إثارة للقارئ المصري من خبر إعدام أكبر داعية إسلامي في هذا الوقت.. أو أن جهاد الشاويش عبدالمنعم في مقاومة الطلبة الصوماليين أفضل منزلة من جهاد المفكر الإسلامي الشهير في مقاومة أعداء الإسلام والدعوة لدينه الحنيف..!
> "المانشيت" الرئيسي لجريدة الأخبار كان يقول بالحرف الواحد: "فاز حنفي بسباق القناة الدولي".. ثم تفاصيل الخبر وصورة لبطل السباق علي ثلاثة أعمدة.. في الصفحة الثانية خبر كبير علي ستة أعمدة يقول: "ثوار فيتنام أغرقوا سفينتين حربيتين أمريكيتين ونسفوا كاسحة ألغام في سايجون".. وعلي الصفحة الثالثة تحقيق علي ثمانية أعمدة كتبه صلاح قبضايا تحت عنوان "قذائف من الجو إلي الأعماق وأسلحة صاروخية مضادة للغواصات".. وأسفل الصفحة إعلان عن فيلم "سانجام" الهندي.. أما الصفحة الرابعة فقد امتلأت بتحقيق كبير عن مصيف رأس البر.. والخامسة يتصدرها موضوعان الأول: عن جيوش الفئران التي تهدد الإنتاج الزراعي في الفيوم.. والثاني: عن مطاردة مهنة "حلاق الصحة" في محافظة البحيرة.. والصفحة الرابعة تقدم خبرها الرئيسي الذي كتبه جميل جورج تحت عنوان يقول: "40 دولة تشترك في سوق القاهرة الدولي".. ومحمد زكي عبدالقادر - رحمه الله - يكتب عموده اليومي "نحو النور" عن تشجيع الالتحاق بمراكز التدريب المهني.. ثم الصفحة الثامنة عن سباق القناة الدولي.. كتب الصفحة دسوقي عثمان تحت عنوان: "حنفي الأول - جامع الثاني - وليامز الثالث".. سمير شديد أول الهواة وسامية مندور أولي السيدات.. ثم الصفحة التاسعة التي يقدم من خلالها رشدي صالح "أخبار الفن" تحمل موضوعا رئيسيا بعنوان: "ليلي رستم ترد علي الهجوم الليلة".. أما الكاتب الساخر جليل البنداري فقد كتب عموده هذا العدد عن وحشة القاهرة له وهو في بيروت.. وأن أكثر الأشياء التي وحشته فيها الجلابيب البلدي والطواقي والملاءات اللف وسلطانية الطرشي ومواويل محمد طه.. وفي الصفحة العاشرة موضوع كبير علي خمسة أعمدة أختير "مانشيتا" للصفحة، كتبه نبيل عصمت من بيروت بعنوان "ملكة جمال العرب".. نجحت الفكرة وفشل المهرجان.. الصفحة قبل الأخيرة "الوفيات" والصفحة الأخيرة تتصدرها صورة من أعياد البحرية علي أربعة أعمدة.. ويوميات الأخبار بعنوان "هل يخلع أوثانت الحذاء الذي يؤلم قدمه" بقلم حسين فهمي.. وعمود مواقف لأنيس منصور كتبه في هذا الصباح عن إحدي زياراته لألمانيا..
هكذا كانت الأخبار الرئيسية الهامة في جريدة الأخبار صباح 26 أغسطس 1966؟ وجعلت خبر إعدام سيد قطب علي الصفحة السادسة علي مساحة عمود في أقصي يسار الصفحة.. في مكان غير ظاهر بالمرة.. وكتبت الخبر في أربعة أسطر فقط.. قالت في عنوان الخبر:
"تنفيذ حكم الإعدام"..
ثم فصلت العنوان المبهم مكتفية بثلاثة أسطر:
- "نفذ فجر اليوم حكم الإعدام في كل من سيد قطب إبراهيم ومحمد يوسف هواش وعبدالفتاح إسماعيل"..
لاحظ أن الجريدة قالت: إن الإعدام تم فجر يوم 29 أغسطس بينما تم قبل ذلك بأربع وعشرين ساعة.. الطريف أن الجريدة نشرت في العمود المواجه لخبر إعدام سيد قطب خبراً واضحاً عن فيلم "امرأة من نار".. ونشرت أسفل خبر إعدام سيد قطب إعلانا عن فيلم "الأصدقاء الثلاثة".. ولم تكن تقصد الجريدة - قطعا - أي تلميح أو إشارة إلي إعدام سيد قطب وصديقيه.. اللافت للنظر أن الصفحة الأخيرة صدرت بغير عمود "فكرة" الذي يكتبه الراحل الكبير علي أمين.. لأن الدولة كانت قد اعتقلت مصطفي أمين قبل هذا اليوم بأسابيع قليلة واضطر توأمه ألا يعود من رحلته إلي لندن..
> لم يكن هذا هو حال جريدة الأخبار وحدها..
بل ربما كانت جريدة الأخبار أفضل حالا من باقي الصحف الصادرة نفس هذا اليوم.. ولم يكن هذا التجاهل الغريب من وضع وسائل الإعلام.. لكن القيادة السياسية أمرت بألا يكون للإعلاميين أي حق في مناقشته..
> لم يكن الشعب المصري يدري بما حدث..
الناس يمارسون حياتهم الطبيعية.. الحذر هو السمة الغالبة علي أفراد الشعب المصري.. لا أحد يتحدث في السياسة.. الأخ لا يأتمن أخاه.. والصديق يشك في صديقه.. ووظيفة "المرشد" كان يشغلها أقرب المقربين إليك.. النكتة السياسية هي فاكهة أي حديث بين اثنين في الشارع المصري حينئذ.. معظم النكات كان بطلها رئيس الدولة في نفس الوقت.. وقادته من أهل الثقة.. من بين النكات التي أعجبت عبدالناصر شخصيا أن الشعب كله أصبح يرفع شعار "ارفع صوتك كما تريد يا أخي ما دام أن ذلك يتم في سرك".. لو كان الشعب يعرف في ذلك اليوم أن حكم الإعدام قد نفذ في سيد قطب لأخرج كل مراراته الوجدانية في نكات سياسية.. أشد التهابا من مقالات الصحفيين التي لم تنشر.. لأنها لم تكتب أصلا..!!
> ولم يكن سيد قطب نفسه حريصا علي أن يشعر أحد بإعدامه.. لإيمانه المطلق بأن مماته وحياته في يد ملك واحد يراقب الأحداث من فوق سبع سماوات.. كان سيد قطب حريصا علي شيء واحد.. هو عظمة اللقاء.. الذي يؤمن إيمانا راسخا بأنه لقاء القمة.. لأن قمة اللقاء مع ملك الملوك لا تكون إلا إذا كان الضيف القادم من الأرض من الأنبياء أو الرسل أو الشهداء أو الأولياء الصالحين.
"واقتربت لحظة الإعدام"
> كل شيء جاهز، ومعد تماماً..
الصمت الرهيب يسود الحجرة.. الجدران تبدو كما لو كانت قد تقوضت من رهبة اللحظة التاريخية.. الحبل يتدلي من سقف المشنقة، قويا، مفتولا،.. مستديرا من أسفله حول الرقبة.. ذراع المشنقة التي يحركها عشماوي لتقصف بأجل العلماء أشرفوا عليها أكثر من مرة للتأكد من أنها قادرة علي تنفيذ المهمة بنجاح ودقة.!
دخل سيد قطب الحجرة مرفوع الرأس.. كان مطيعا لأوامر وتوجيهات عشماوي وهو يتقدم لارتداء "الطاقية" القاتمة التي تخفي وجه المحكوم بإعدامه حتي تسلم روحه.. هكذا يتخيل المشرفون علي أحكام الإعدام.. وواضعو لوائحها.. إنهم يراعون مشاعر وآدمية "الإنسان" الذي يعدمونه..!!!
> وقبل أن يرتدي سيد قطب "الطاقية" قاتمة اللون.. همس بكلمات سريعة.. أشبه بالدعاء.. كاد عشماوي يرتعد وهو يسمعها تتقاذف واحدة تلو الأخري من فم سيد قطب.. كلمات بسيطة سمعها عشماوي آلاف المرات.. لكنها في أذنيه الآن كما لو كان يسمعها لأول مرة.. فالمعاني التي تحملها لها معان ومفاهيم أخري.. أكثر رهبة وفزعا من الموقف الذي يعيشه الآن.. سأل الصحفي الكبير عشماوي وألح عليه أن يعرف ماذا قال سيد قطب في تلك اللحظة الأخيرة من عمره.. فضوله الصحفي منعه من أن ينصرف حتي عرف ماذا قال سيد قطب بعد أن التف حبل المشنقة حول عنقه.. وتأمل الصحفي الكبير آخر سبع كلمات قالها الداعية الإسلامي:
- "اللهم اجعل دمي لعنة في عنق عبدالناصر"..
ولكن الصحفي الكبير لم يستطع أن ينشر كلمة واحدة من الكلمات السبع.. وإن كان يردد دائما حتي وفاته.. أنه لم يعش في حياته أبشع من مشهدين.. إعدام سيد قطب وجثمان السادات في مشرحة المعادي..!
ويقابل الصحفي الكبير في نفس اليوم، وبعد ساعتين من تنفيذ حكم الإعدام صديقه الكاتب الصحفي المعروف حامد دنيا.. تم اللقاء في أحد الأجهزة الإعلامية.. عندما حكي الصحفي الكبير لصديقه عن قوة شخصية سيد قطب وعظمته الإيمانية وهم يشنقونه.. قال له الصديق إن ذلك كان متوقعا من رجل مثله.. وحينما أضاف الصحفي الكبير العبارة التي قالها سيد قطب وكانت آخر ما نطق به لسانه قبل الشهادتين الأخيرتين.. ملأ الفزع ملامح الصديق وتمتم وعيناه سارحتان:
- "سترك يا رب.. اللهم الطف بعبادك"..!
"الإعدام"
> كان يمكن لسيد قطب إنقاذ روحه.. لو تقدم بالتماس إلي رئيس الجمهورية - إجراء أشبه بالاعتذار الرسمي توحي به الحكومة بعد إصدار أحكام بإعدام من تراهم من أعدائها.. لتذلهم أمام أنفسهم وأمام الشعب.. أو هو من باب "كسر العين" لزعماء مناهضيها - هذا الالتماس تقدم به إخوان كثيرون لسيد قطب وبعضهم خففت عقوبته بالفعل من الإعدام إلي الأشغال الشاقة.. لكن سيد قطب رفض أن يلتمس حياته من جمال عبدالناصر.. فالحياة عنده تعني شيئا آخر مختلفا تماما عن الحياة عند عبدالناصر.!
ورفض مع سيد قطب أيضا اثنان من إخوانه.. تم إعدامهما بعد إعدام سيد قطب بخمس دقائق فقط.. هما محمد يوسف هواش وعبدالفتاح إسماعيل.. ورفض الثلاثة أن يستذلوا أنفسهم من أجل حياة هم علي يقين من أنها لا تعادل جناح بعوضة عند خالقها سبحانه وتعالي.. كانوا يعرفون أن المحكمة التي حاكمتهم برئاسة "الدجوي" كانت أظلم المحاكم في التاريخ.. تتلقي الأحكام بالمكالمات التليفونية الآمرة.. وتعلنها في جلسات تصفها بأنها علنية.. الثلاثة يعرفون أن الظلم يوم القيامة ظلمات.. وما تكبدوه وعانوه شيء أفظع من الظلم.. ربما عقدت له يوم القيامة المحاكم الخاصة أيضا.. الثلاثة يعرفون أن الشعب لا يثق في المحاكم الاستثنائية والعسكرية.. لأنها محكومة قبل أن تكون حاكمة.. بل إن الشعب أصبح يستشعر براءة المجني عليهم من قرار إحالتهم إلي المحاكم العسكرية.. خاصة كالتي يرأسها الدجوي.. وكانت أحكامها علي كل لسان قبل النطق بها.. وتماما كما يحدث في فوازير نيللي.. وأسئلة الامتحانات ببعض المعاهد والمدارس.. الشعب لا يطمئن إلا لقضائه العادي.. الاستثناء يعني التحيز لشيء ما.. والمحاكم الاستثنائية تشكلها الدولة وتعين قضاتها.. فلا يمكن أن تنحاز لغير الدولة التي هي أحد أطراف القضايا التي تنظرها دائما.. فلا يشعر الشعب المصري يوما واحدا ولا حتي ساعة واحدة.. بأن القاضي العسكري هو ظل الله علي الأرض.. ورمز العدالة وإن كان هذا الإحساس ينتابه علي الدوام كلما وقف أمام قاضيه الطبيعي..
ولأن في مصر قضاة.. وتاريخ ومجد القضاء المصري يؤكد أنه كان الحصن الحصين المنيع للعدالة علي مر العصور.. فقد خشيت الدولة من إحالة قضية سيد قطب وإخوانه إلي القضاء العادي.. لأنه ربما أظهر حقيقة وبراءة هؤلاء وتقضي بعقاب من قدموهم إلي المحكمة وسط مظاهرة من الأدلة الكاذبة.!!
أخيرا تدلي الجسد الطاهر النحيل من حبل المشنقة..
ظنت القيادة السياسية أنها أعدمت المد الإسلامي.. وخنقت فكر الإخوان.. وشنقت عقلهم المفكر.. الشيء الوحيد المؤكد.. هو أن الذي أعدم وشنق هو جسد سيد قطب، وليس المد الإسلامي أو فكر الإخوان وعقلهم المفكر.. الحاكم الديكتاتور يمكنه تعذيب الأجساد وإعدامها أينما وحيثما شاء.. ولكنه يعجز عن مقاومة "الفكر".. العقيدة تتغلب دائما.. تصبح أقوي من بطش الحاكم الديكتاتور.. وقد تصيبه بالجنون وحرق الدم أو تعجل بنهايته دون أن تحدث وتموت هي من بطشه أو تحرقها ناره.. الحكام دائما إلي زوال.. والفكر والعقيدة يعيشان علي مر العصور..
"كارثة"
> هل كانت السماء غاضبة إلي هذا الحد؟
لم تمض سويعات قليلة علي تنفيذ حكم الإعدام في الشهداء الثلاثة حتي كانت السماء ترد بعنف بالغ.. وتضيء النور الأحمر في مظاهرة احتجاج مثيرة.. هطلت الأمطار والثلوج في عز الصيف.. بينما كان الجو جحيما لا يطاق منذ اليوم الأول من أغسطس وحتي لحظة إعدام سيد قطب.. الصهد يشع من الأرض والعرق يبلل الوجوه.. ونار تتأجج في الأبدان.. فجأة تكهرب الجو.. تناثرت قطعات الثلج من السماء وكأنها تقذفها علينا.. وترجمنا بها.. دفاعا عن سيد قطب وحبا لإيمانه وثقته وبراءته.. ويشعر الصحفي الكبير بالذعر يملؤه.. ويسيطر عليه كلما سري إلي مسامعه اندفاع قطعات الثلج وارتطامها بزجاج سيارته.. لا يختلط مع هذا الصوت غير نبرات سيد قطب وهي تردد دعاءه الأخير قبل لحظة إعدامه.. والذي قاله في سبع كلمات فقط.. وفي اليوم التالي أقيمت صلاة الغائب علي روح سيد قطب في معظم الدول العربية.. وقال أحد كبار السياسيين في تونس لإحدي الصحف الغربية:
. إن الله سينتقم لهذا العالم من هذا الحاكم..!
"النكسة !!"
> لم تمض أسابيع علي إعدام سيد قطب ورجالات الإخوان المسلمين.. حتي مرض عبدالناصر مرضه الخطير.. لتبدأ سلسلة من الأزمات والنكسات تحل بمصر واحدة تلو الأخري بينما كان قادة مصر يزلزلون العروش ويشجعون الثورات.. والانقلابات.. ويتحدون الإمبريالية العالمية.. ويهددون بإلقاء إسرائيل في البحر..
> سافر عبدالناصر سرا للعلاج في تسخالطبو بروسيا..
وأخفي الإعلام المصري، حقيقة مرض عبدالناصر.. وتعمدوا التأكيد علي أن صحة عبدالناصر «عال العال» كيلا يدعوا فرصة لشماتة الشامتين.. ولم يكتف القدر بعذاب المرض لعبدالناصر.. بعد تسعة شهور من إعدام سيد قطب كانت نكسة 1967 المريرة.. مصريا وعربيا.. وأكبر هزيمة سياسية لعبدالناصر دفعته إلي التنحي عن الحكم والاستسلام للروس.. في يوم التنحي وقف "علال الفاسي" وهو أحد السياسيين المعروفين في المغرب.. ومن قادة أحزابها وأشهر مناضليها.. وقف علال الفاسي وقال في خطبة حماسية شهيرة:
"ما كان لله حاشا وتعالي - أن ينصر قاتل سيد قطب"..!
وما كاد عبدالناصر يفيق من العار السياسي الكبير حتي كانت أزمته الكبري مع صديق عمره عبدالحكيم عامر وتبادلهما الاتهامات بالخيانة حتي مات الصديق مقتولا أو منتحرا.. وبقي عبدالناصر وحيدا أمام كل هذه النكبات.. إلا أن وحدته لم تدم طويلا.. أسلم الروح بعد ثلاث سنوات من إعدام سيد قطب.. عاني فيها آلام المرض وعار الهزيمة وفقد الصديق واليأس من الحياة.. لم يذق فيها طعم السعادة أو الرضا يوما واحدا.. بل إن مصر كلها دفعت الثمن معه.. فإن كانت أحكام القضاء التي توالت بعد حكم السادات في قضايا التعذيب.. تؤكد أن الإخوان قد لاقوا ذلاً وهواناً من الحكومة المصرية لا يليق بآدمية الإنسان.. فمعني هذا أن الظلم الذي وقع عليهم.. وثبت من خلال الأحكام.. كان لابد أن تنتقم له السماء بعد أن جاوز حدود البشر..
ولم يمت سيد قطب رغم كل ذلك..
مازالت كتبه تملأ المكتبات حتي الآن.. بينما اختفت صورة عبدالناصر ومسحت خطبه وتتجاهل سيرته نفس الصحف والمجلات.. بل إن الذين هللوا لإعدام سيد قطب هم أنفسهم ا الذين قالوا في عبدالناصر أبشع مما قال مالك في الخمر.!!