حكاية بائع الخضار الذي هز عرش مصر وتعلقّ جثمانه على بيته
يزخر التاريخ المصري بأسم الكثير من المقاومين الذين خلّد التاريخ أعمالهم العظيمة، لتظل شاهدة على تلك الفترات الهامة التي مرت بها مصر خلال عقود طويلة من الزمن، ومن هؤلاء الأبطال يبرز اسم أسد الرميلة حجاج الخضري، وهو صاحب واحدة من القصص المثيرة على طريق تحرير مصر.
كان الخضري واحدًا من أصحاب الحرفية المصرية والذين عرفهم التاريخ باسم "أولاد البلد"، إذ كان شيخًا لطائفة بائعي الخضار، ومنها عٌرف لقبه.
بائع الخضار الثائر
المعروف عن حجاج الخضري أنه كان من أبناء قرية المنوات التابعة لمركز أبو النمرس بـ محافظة الجيزة، كما كان مشهورًا بالإقدام والشجاعة، وهو طويل القامة عظيم الهمة، وهو ما جعله أحد الفتوات في ناحية الرميلة، التي تسمت على اسم ميدان الرميلة أو ما عُرف بميدان القلعة المواجه لقلعة صلاح الدين الأيوبي، وتتبع الآن قسم الخليفة وتُعرف باسم المنشية.
كان العثمانيون قد غزوا مصر سنة 1517 م، وأنهوا بذلك حقبة الحكم المملوكي التي استمرت نحو قرنين ونصف من عمر الزمان، في تلك الفترة ظل المصري ينظر إلى الجندي المملوكي ونظيره التركي نظرة خوف ورهبة، حتى شهد بنفسه انكسار المماليك وهزيمتهم وفرارهم من أمام الفرنسيين 1798م، وأدرك المصريون أنهم يستطيعون تحمل مسؤولية القتال.
فور جلاء الفرنسيين أرسل الباب العالي واليًا جديدًا، وتأهب الأمراء المماليك للعودة مرة أخرى لسابق عهدهم، بعدما أصبحوا فريقين متناحرين، يقود الفريق الأول البرديسي الذي أسرع لتقديم فروض الولاء والطاعة للوالي الجديد، وظل الفريق الآخر بقيادة الألفي يتحين الفرصة للانقضاض على الحكم. لكن ما حدث بعد ذلك كان على عكس ما رتب له الجميع.
بدأ حلم تحرير مصر من العثمانيين يحتل عقل وقلب الثوار، الذين حملوا أرواحهم فوق أكفهم من قبل في مواجهة الفرنسيين. وأعلن حجاج الخضري أنه من العبث أن نضحي بأرواحنا كي نسلم البلاد مرة أخرى للأتراك ولوكلائهم من المماليك
ولم يكن الثوار، وعلى رأسهم حجاج الخضري، هم من يرغبون وحدهم في كسر شوكة الأتراك، لكنّ مغامرًا ألبانيًّا اسمه محمد علي، جاء ضمن قوات الوالي التركي في حربه مع الفرنسيين، عرف أهمية مصر فشب بداخله حلم امتلاكها وفصلها عن الباب العالي، لتكون طعمة له ولأبنائه من بعده، فتقرب للمشايخ والعلماء وكبار التجار، وكسب ود شيوخ الحرف والطوائف.
أزمة حكم مصر
وسط ذلك كله، كان لحجاج الخضري حٌلم خاص بأن يحكم مصر أبناؤها، وعلى الرغم من تجمع مختلف طوائف الشعب -التواقة للتحرر من عسف الأتراك والمماليك وتنسم هواء الحرية- حوله فإن المشايخ والعلماء جابهوا ذلك بالرفض، متعللين بضرورة طاعة الباب العالي (ولي الأمر)!
ولم يكد أحمد باشا خورشيد يصل إلى مصر واليًا عليها بفرمان سلطاني، حتى بدأ القضاء على أية قوة يمكنها أن تهدد وجوده، وأسرع في فرض المزيد من الضرائب الجائرة، وأطلق لجنوده العنان في استخدام مختلف أشكال القوة في تحصيل هذه الضرائب.
ضج الناس بالشكوى ولجؤوا إلى الجامع الأزهر وطلبوا تدخل المشايخ، كما لاذوا بدار السيد عمر مكرم، واستطاع حجاج الخضري وابن شمعه، وشيوخ الطوائف والحرف، تحريك الجموع الغاضبة. وشهدت شوارع مصر غليانًا وغضبًا، وفي نفس الوقت راسل محمد علي قادة الشعب وأخبرهم بتأييده لهم ودعمه لتحركهم ورفضه لما يفعله الوالي، وظل الأمر في شد وجذب، وكلما ازداد الوالي عنادًا ومكابرة، ازداد الشعب تصميمًا على رفض سياساته.
تولي محمد على للسلطة في مصر
في أثناء هذا جاء فرمان بتولية محمد على حكم جدة، وضرورة مغادرته أرض مصر، فثار علماء الأزهر وأعلنوا تمسكهم به في مصر، نظرًا إلى حسن ظنهم به وبحبه للبلاد، فانقسم الجنود الأتراك في ما بينهم، ووصل الأمر إلى قتال بعضهم بعضًا.
استغل حجاج الخضري هذه اللحظة التاريخية، فأوعز إلى الجموع رفض حكم خورشيد وضرورة عزله. وتطورت الأحداث سريعًا، فقاد حجاج الجموع الهادرة، وحاصروا القلعة ومنعوا عمن فيها المؤن، واشتبكوا مع جنود الوالي في مناوشات، وتبادلوا معهم إطلاق الرصاص، فاشتعلت شرارة الثورة في البلاد.
وكان لزامًا على طليعة الشعب -ممثلة في العلماء والمشايخ- أن تنحاز للثورة الشعبية، فعقدوا مجلسًا في بيت القاضي وكتبوا للسلطان يعلمونه برفضهم لمسلك الوالي وفرضه الضرائب وظلمه للناس، ما يستوجب عزله، بينما استغل محمد علي هذا الأمر وأوعز إلى عمر مكرم المناداة به واليًا لمصر، بعدما وعده بالصلاح وتحري العدل وبأنه لن يقطع أمرًا إلا بمشورته، كما ألمح له من طرف خفي إلى أنهم لا طاقة لهم بحرب جيش السلطان.
ثورة حجاج الخضري
وازداد الأمر تعقيدًا، وواصل الخضري محاصرته للقلعة واستطاع إحباط محاولة تسلل لتوصيل أسلحة وعتاد للوالي المحاصَر، عبر صنع نقب في أحد أسوار القلعة. وفي نهاية الأمر رضخ السلطان لمطلب المصريين، وأصدر فرمانًا بعزل خورشيد وتولية محمد علي حكم مصر. وتعهد الوالي الجديد أمام الجميع بحسن إدارة الأمور وتحري العدل في مسلكه، ولم يهدأ الثائر وإنما حذر الوالي الجديد من أنه إذا حاد عن طريق الصواب فسوف يعزله الشعب المصري كما عزل من سبقه.
وظلت العلاقة متوترة بين حجاج الخضري وبين محمد علي، وكان الخضري يؤلب الجموع ضد أية قرارات يراها ضد مصلحة المصريين، أو يشم منها بداية تسلط الوالي الجديد ونزوعه نحو فرض ضرائب جائرة تأسِّيًا بمن سبقوه من الولاة العثمانيين.
وبمرور الوقت، استطاع محمد علي التخلص من الزعامات التي أجلسته على كرسي الحكم الواحد تلو الآخر، مستغلاً ما بينهم من صراعات تارة، وحائكًا للمؤامرات تارة أخرى، وجاء الدور على حجاج الخضري، وأصبح الناس يومًا فوجدوه مشنوقًا على باب حارته، فوقفوا باكين أسفل الجسد المدلى، كأنهم يبكون ضياع حلم حكم مصر بيد المصرين، ذلك الحلم الذي لم يتحقق إلا بعد قرن ونصف من شنق بطل الثورة المنسية، الذي ضنت كتب التاريخ بذكر اسمه، باستثناء صفحتين أو ثلاث في كتاب عبد الرحمن الجبرتي، الذي كان شاهد عيان على قيام وانهيار ثورة 1805 م، وقائدها حجاج الخضري.
وظل جثمانه معلقًا بالرميله لمدة يومين ليكون عبره لكل من يعترض علي سياسات محمد علي، إلى أن أعطى الوالي الأذن لأهله بدفنه.
إقرأ أيضا
غرائب تيتانيك.. قصة البريطاني الذي تلقى أول نداء استغاثة أثناء الغرق وحدّد مكان الحطام بعد 73 عامًا
حكاية صواني الطعام الفاخرة التي وزّعها الخديوي إسماعيل على أهل عابدين في رمضان