أغرب سرقة بنك في التاريخ.. سر مسؤول الصحة الغامض الذي أرعب اليابان
على مدار سنوات طويلة من التاريخ، وقعت العديد من الجرائم الغريبة في أحداثها، والتي تعتبر أقرب إلى الأفلام السنيمائية، ومنها تلك الجريمة التي وقعت في طوكيو عاصمة اليابان في 26 يناير عام 1948، واستطاعت أن توصف بأنها أغرب سرقة لبنك.
كانت الساعة تقترب من الثالثة والنصف بعد الظهر وأبواب بنك (تيكوكو) المزدحم على وشك الإغلاق، وفجأة ظهر رجل نحيف متوسط الطول يمشي بخطوة سريعة يدخل إلى البنك يرتدي بالطو أبيض، وعلى كم البالطو شارة وزارة الصحة اليابانية وبارزة فيها كلمة (الصحة) واضحة.
تطعيم في البنك
دخل الرجل مندفعا وهو يسأل بصوت سريع عالي فيه نبرة واثقة ثقة المسئولين الرسميين :" أين مكتب المدير؟" فقادوه على الفور باهتمام زائد إلى مكتب نائب المدير.
وهناك قدم نفسه إلى نائب المدير على أنه طبيب مدني من الإدارة الصحية التابعة للجنرال ماك آرثر ( القائد الامريكي الذي تولى حكم اليابان بعد استسلامها نهاية الحرب العالمية الثانية )، وأنه تم إرساله في مهمة رسمية إلى هذا البنك لتطعيم موظفيه ضد الدوسنتاريا الأميبية المنتشرة وقتها في ذلك الحي من العاصمة.
وبالفعل، وافق مدير البنك مرحبًا ومطيعًا للإجراءات الصحية الوقائية لأنه يعلم أن بلاده اليابان واجهت مصاعب غذائية شديدة بعد الحرب وحدثت حالات تسمم كثيرة في مناطق مختلفة، فالوقاية اذن مطلوبة وضرورية، وها هو التطعيم يصل إلى مكان العمل حرصا على وقت الموظفين، ومن عجائب المصادفات أن مدير الفرع استأذن في الانصراف مبكرا في ذلك اليوم لشعوره بآلام واضطرابات شديدة في معدته.
جمع الطبيب كل العاملين بالبنك بعد أن أغلقت الأبواب الخارجية لأنتهاء وقت العمل وطلب من الحاضرين أن يأتيه كل منهم بفنجان الشاي الخاص به ليصب فيه سائلا اخرجه من زجاجات بحقيبة في يده، وأخبرهم أنه سائل طبي مستحدث أقوى وأسرع مفعولا لجهاز المناعة في الجسم من الامصال والحقن التقليدية، ونصحهم مطمئنا بأن البعض منهم ربما شعر بالألم أو احتقان في الحلق للحظات بعد شرب تلك المادة ولكن هذا طبيعي فلديه مستحضر طبي آخر للتهدئة الكاملة عندما يشعر احدهم بذلك واخيرا طلب منهم أن يشربوا الفنجان دفعة واحدة ليتجنبوا مرارة المذاق .
أموال مسروقة وجثث
وشرب الجميع فعلا، وفي الحال أطلق بعضهم صرخات من الألم الشديد ثم سقطوا جميعا على الأرض ميتين، ماعدا ثلاثة رجال وامرأة منهم نائب المدير لكنهم كانوا في غيبوبة كاملة، واسرع الطبيب بالقفز فوق جثث الضحايا متجها إلى خزانة البنك ووضع في حقيبته 164400 ين ياباني مع شيك مصرفي بمبلغ 17405 ين ياباني، وكان مجموعهم جميعا وقتها يعادل 500 دولار امريكي فقط مقابل 12 جثة لموظفين البنك الموتى.
مضت أسابيع ولم تستطع الشرطة الوصول إلى أي خيط ولو رفيع يؤدي إلى معرفة المجرم (لم تكن كاميرات الشوارع قد اخترعت)، وانتشر الخبر واثار الذعر في اليابان كلها وعندما فشلت الاجراءات العادية في الوصول إلى اى شيء، لم تجد ادارة الشرطة مفر من اللجوء إلى ( تاميجورو اكيي )، وهو أشهر محقق رسمي في الشرطة اليابانية عمره 43 سنة وله خبرة واسعة متميزة في القبض على المجرمين وكشف الجرائم الشديدة الغموض، لذلك صدر اليه الأمر بالكف عن متابعة عمله في جرائم اخرى والتفرغ تماما للبحث عن الجاني في واقعة تسميم موظفي البنك وسرقته والذي اعتبروه اخطر جريمة في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
كان كل ما توصل اليه المحققون في تلك الجريمة الرهيبة أن المجرم المجهول سبق أن حاول تجربة تنفيذ الجريمة كبروفة في بنكين آخرين، بأن قدم نفسه إلى مدير كلا البنكين بالأسلوب ذاته، وتلقى ترحيبا وشكرا وموافقة على العودة مع فريق من العاملين بالوحدة الطبية العسكرية لتطعيم الموظفين في وقت لاحق، ثم عاد في يوم لاحق بمفرده بحجة أن فريق العمل معه مشغول في موقع آخر وأعطى العاملين بالبنك شرابا غير سام على أنه دواء للوقاية فلم يقع ضرر لكنه اختار بنك تيكوكو لتنفيذ الجريمة الكبيرة الحقيقية بعد التجربتين.
سر كارت الطبيب
تولى تاميجورو القضية وقرأ بعناية وتركيز كل ماسجله المحققون ولفت نظره شيء واحد لم يفطن اليه احد، هو أن المجرم الذي قابل مديري البنكين الآخرين زاعما أنه طبيب ترك لأحدهما كارت شخصي بأسم (د/ شيجيرو ماتسووي)، وثبت من تحريات المحققين أن الطبيب الحقيقي الذي يحمل هذا الاسم والمهنة لاعلاقة له مطلقا بالحادث، وانتهى التحقيق معه وصرفه المحققون وهنا توقف تاميجورو وبدأ مسيرته بحثا عن الجاني في الظلام
في اليابان هناك عادة سلوكية شائعة وهي تبادل الكروت الشخصية التي تشمل الأسم والعمل ورقم التليفون و التي تؤدي دور مهم في العلاقات والحياة العامة، ويحتفظ اليابانيون بها جيدا للرجوع اليها دائما في قضاء شئونهم، ولذا استدعى المحقق تايجورو الدكتور ماتسووي الذي استخدم المجرم كارته الشخصي وسأله عن كروته لمن يعطيها، فأخبره أنه طبع منها مائة كارت فقط ولم يتبقى معه سوى 4 كروت وانه تبادل نصف الكروت مع اشخاص في مناسبات مختلفة والباقي اعطاه لمرضاه، وبالطبع تم تكليف مجموعة من المحققين لسؤال كل المرضى المسجلين بعيادة الطبيب ولكن كان طريقا مسدودا .
اهتم المخبر تاميجورو بمعارف الطبيب ماتسووي ورجح أن المجرم هو واحد منهم، لذلك اتصل بهم بنفسه واحدا واحدا وسألهم مرة ثم عاد ليسألهم مرة ثانية وثالثة وبطريقة مختلفة كل مرة، وفي الوقت نفسه كان يتحرى عن حركة حساباتهم في البنوك وعن احوالهم المالية وسوابقهم الجنائية وانحصرت شكوكه في شخص واحد، وهو فنان ممثل له قدر من الشهرة كان الطبيب ماتسووي قد قابله في رحلة بحرية واسمه (ساداميتشي) عمره 56 سنة يعيش في جزيرة هوكايدو، وسبق أن استجوبه المحققون لكنهم استبعدوه من الشبهات لأنه كان لطيفا وظريفا وهاديء الطبع والسلوك وواثقا من نفسه جدا.
اكتشف المحقق تاميجورو أن هذا الفنان كان في العاصمة طوكيو يوم ارتكاب الجريمة، وبالفحص الدقيق والتحري عن تحركاته في ذلك اليوم تبين أنه كان في منطقة البنك يوم ارتكاب الجريمة، وبمزيد من البحث تبين أنه كان في ضائقة مالية قبل وقوع الجريمة وبعدها مباشرة اودع 44500 ين في حسابه بالبنك الذي يتعامل معه، كل ذلك جعل هناك قرائن وشكوك شديدة حوله وكان المحقق تاميجورو مصمما على أن من ارتكب هذه الجريمة البشعة هو شخص مغرق في الخيال والمبالغة والغرور لذلك ايقن أن ساداميتشي هو المجرم الذي يبحث عنه وتبحث عنه اليابان كلها.
الإيقاع بالجاني
ولكن رفض رؤساء ناميجورو كلامه على اعتبار أنه لايوجد دليل قاطع على هذا الرأي وان من الافضل أن يبحث عن متهمين آخرين ولا يضيع الوقت مع هذا فقط، ولكن المحقق ناميجورو كان مؤمنا بخبرته وفي يقينه أن هذا الفنان هو المجرم، لذلك اعاد دراسة اقوال الفنان عدة مرات واكتشف شيئا ما، فقد زعم ساداميتشي أن النقود التي اودعها في البنك كانت اجرا له عن عمل تمثيلي اعطاه له احد المنتجين الفنيين، لكن المخبر اكتشف بتحرياته السرية أن هذا المنتج مات قبل الجريمة بعدة شهور، ولكنه اخفي هذه المعلومة ولم يخطر الفنان بها واستمر في لقاءاته معه ويعامله بأحترام زائد ولطف بالغ حتى أنه طلب منه صورة فوتوغرافية شخصية موقعة بأمضائه اعجابا بفنه فاعتذر ساداميتشي بأنه لايملك صورا شخصية، وكان هذا في ظن المحقق امرا غير طبيعي لأن جميع الفنانين يحتفظون عادة بصورهم الشخصية التي يهدونها للمعجبين والمعجبات في شتى المناسبات لأنها دعاية لهم ومزيد من الشهرة .
ذات ليلة قام المحقق بدعوة الفنان لتناول العشاء معه في مطعم مشهور وسبقه في الحضور إلى المطعم قبل الموعد المحدد واتفق مع مضيفة المطعم أن تلتقط له ولصديقه القادم صورة فوتوغرافية أو اثنتين معا بعد الانتهاء من الطعام كنذكار لمناسبة يحتفلان بها في تلك الليلة.
وبالفعل التقطت المضيفة صورتان لهما عندما انتهيا من الطعام واستعدا للأنصراف لكن ساداميتشي انتبه عندما همت المضيفة بتصويرهما وادار وجهه بسرعة فلم يظهر في الصورة الاولى واخفى وجهه بيده في الصورة الثانية، وكان هدف المحقق تاميجورو أن يعرض صورته على الاربعة الناجين من موظفي البنك بعد افاقتهم من الغيبوبة للتعرف عليه.
واخيرا وقع ساداميتشي في الفخ فعندما سأله المخبر تاميجورو عن الكارت الشخصي الذي اعطاه له الطبيب ماتسووي وكان رد الفعل واضحا على ساداميتشي فقد ارتبك ثم تلعثم وقال انها كانت في جيب معطف كان يرتديه الليلة السابقة وسرق منه في احد المطاعم وهنا فاجئه المحقق بالسؤال مستغربا :" وهل يرتدي الناس في طوكيو معاطف في هذا الشهر مايو الشديد الحرارة " فلم يستطيع الاجابة.
الجزاء من جنس العمل
انهار تماسك الفنان اللطيف الظريف الهاديء الطبع والسلوك الواثق من نفسه، وزعم أنه لم يكن يقصد القتل أو السرقة وانما كان فقط يجرب مهارته الفنية عمليا قبل الشروع في كتابة رواية مسرحية جديدة وانه لسوء الحظ ولقدر الضحايا ربما اخطأ في اعداد الشراب الذي تناولوه فأضاف اليه كمية اكبر من سيانيد البوتاسيوم بدليل أنه اجرى التجربة مرتين قبل ذلك ولم تحدث اضرار على الاطلاق
في اثناء المحاكمة انكر المتهم اعترافاته السابقة مدعيا أن محققي الشرطة انتزعوا منه اعترافا بالأكراه، بعد أن منعوه من النوم ليومين متتاليين كاملين وانقسم الرأي العام بين منحاز للفنان وساخط عليه لأن في تلك الفترة التي كانت فترة تحول في تاريخ اليابان الحديث بعد الحرب كانت صيحة الديموقراطية تدوي بشعارات الإصلاح والانفتاح وحقوق المتهمين في الدفاع عن انفسهم بكل اسلوب متاح، ومع أن جرائم القتل الجماعي القليلة بالسم كانت تثير سخط الجماهير الا أنه في حالة الفنان ساداميتشي كان الأمر مختلفا وتكونت هيئة للدفاع عنه مرتكزة على أن شهادة بعض الناجين من القتل بالسم كانت مبهمة وغير قاطعة وبعضهم تردد في التعرف على المتهم ولكن في النهاية صدر الحكم بأدانة ساداميتشي والحكم عليه بالأعدام شنقا.
في ذلك الوقت كانت حملة الكثيرين من المثقفين والجمهور مشتعلة لألغاء عقوبة الاعدام عموما من اليابان وبالفعل تم الغائها وكان ساداميتشي على رأس قائمة الاربع والعشرون متهم المنظرين تنفيذ الحكم فلما الغيت العقوبة تحول الحكم إلى السجن مدى الحياة وتم حبسه إلى أن توفى بالتهاب رئوي شديد في مايو سنة 1987 وكان في سن الخامسة والتسعين.
أقرأ أيضا:
جريمة القرن العشرين.. تفاصيل أغرب حادثة لا يزال العلماء يدرسونها حتى الآن
لغز مقتل فاتنة هوليود وسر نبوءة العرافة التي تحققت في لحظات النهاية