في كتابنا الأخير (كيف نفهم قضية فلسطين).. الصادر عن دار (حواديت) للنشرحرصت على إفراد فصل كامل لفهم طبيعة إسرائيل من الداخل، لأن فهم طبيعتها سيفسر للقارئ ألغازا كبيرة أولها سر هذا الفزع الذي تعانيه من هجمات المقاومة وسر هذا التردي النفسي لقياداتها كما لو كانوا يواجهون قوات دول عظمى!
السر في ذلك أن إسرائيل لا يمكن اعتبارها دولة أو قطر مستقر ـــــــ ليس من باب عدم اعترافنا بمشروعيتها فقط ــــــ بل من الناحية العلمية المحضة، فمقومات أي دولة ونظام مستقر تعتمد على عناصر ثلاث لابد أن تتوافر مجتمعة، والأهم أن تتوافر بشكل مستقر.
هذه العوامل الثلاث (الأرض والنظام والمجتمع) والعوامل الثلاث في إسرائيل غير مستقرة، فمن ناحية الأرض فهناك أصحاب الأرض الأصليون الذين تفوقت أعدادهم ومواليدهم بشكل كاسح على مواليد وتعداد اليهود، ووجود عرب 48 أو عرب الداخل في إسرائيل يمثل صداعا دائما في رأس الحكومات المتعاقبة هناك وينذر بتغيير ديمغرافي هائل يتزايد يوما بعد يوم.
لأن إسرائيل لم تنجح كما نجحت أمريكا في إبادة السكان الأصليين وَحَلّت محلهم، بل فشلت ـــــــ رغم كل المذابح ـــــ في الاستئصال التام للشعب الفلسطيني.
ومن ناحية المجتمع.. فالمجتمع الإسرائيلي من داخله مجتمع غير متماسك تحكمه العنصرية منذ نشأته، والتطرف العرقي هو الحاكم هناك بين مواطني الكيان حيث ينقسم المجتمع من الداخل إلى مواطنين من الفئة الممتازة من يهود الغرب (الأشكيناز)، ومرتبة متوسطة وهي يهود المشرق (السفرديم) وطبقة تقع في أحط المستويات وهي اليهود الأفارقة (الفلاشا)
هذا من ناحية تفسخ النسيج المجتمعي نفسه. ..ومن ناحية استقرار المجتمع داخليا فهذا غير متحقق، لأن نفوس المجتمع اليهودي مقتنعة من داخلها أنهم مغتصبون وأنهم لا ينتمون فعليا لهذه الأرض لهذا يعاني المستوطنون دوما من انهزامية غريبة أمام عوام الفلسطينيين الذين يبذلون حياتهم بمنتهى البساطة لأن لديهم عقيدة أصحاب الأرض،
وقد كتبت الصحفية الإسرائيلية (رونيت شام) عدة تحقيقات عن هذا الأمر أخرجتها في كتاب بعنوان (التمرد) كشفت فيه النقاب عن أزمة الداخل وأزمة رفض الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي والذي لم تفلح انتصاراته المصنوعة بتفوق القوة في منعها.
ويضاف إلى أزمات المجتمع الإسرائيلي من الداخل أزمة طريفة تفجرت منذ بدايات القرن الحادي والعشرين وانزعجت لها الحكومة الإسرائيلية بشدة، وهي تنامي العلاقات العاطفية بين فتيات المجتمع الإسرائيلي من الجيل الجديد وبين بعض الشباب الفلسطيني
ومن ناحية العنصر الثالث في تكوين الدولة، وهو النظام، فإسرائيل لا تعتبر دولة لها نظام محدد أو حدود مستقرة" "، أو قوى مجتمعية مدنية تقف خلف السلطة، بل يقوم الكيان اليهودي على مفهوم (الشركة) حيث تسيطر المؤسسة العسكرية على سائر المناصب والتوجهات
ووفقا لوصايا (بن جوريون) مؤسسها الأول فإن إسرائيل يلزم لبقائها أن تكون الوكيل الحصري المعتمد للقوة الغربية في الولايات المتحدة وأوربا، وأن من أقوى أسباب بقائها هو ضرورة اقتناع العرب بأن الغرب لن يتخلى عن دعم الدولة اليهودية تحت أي ظرف
ومع بدايات القرن الحادي والعشرين وعقب احتلال العراق، ثم خروج الدول العربية من سياق التاريخ والتأثير، وزيادة النفوذ الإسرائيلي على حكومات المنطقة.
بدا لنتنياهو أنه سيكون رئيس الحكومة الإسرائيلية التي ستجني أكبر الثمار السياسية للانتصار وهو إجبار المنطقة على التطبيع لهذا فوجئ نتنياهو والغرب بانقلاب الصورة تماما.
ففي الغرب وقفت الولايات المتحدة وهي تعاني اقتصاديا بشكل غير مسبوق حتى وصل معدل ديونها لرقم فلكي تجاوز ثلاثين تريليونا من الدولارات.
وفي أوربا فوجئ الغرب بقيام روسيا من رمادها بعد رقدة استمرت ثلاثين عاما، لتنطلق في حرب إقليمية بمواصفات عالمية تسببت في إفراغ المخازن الأوربية والأمريكية من السلاح دون أن يستطيعوا إيقاف الدب الروسي عن التقدم.
وفي ظل تلك الساعات العصيبة انطلقت جبهة المقاومة في غزة بالاتحاد التام بين (حماس) وبين كافة منظمات المقاومة التي كانت تختلف معهم، ليتوحدوا معا في عملية عسكرية نوعية غير مسبوقة في استراتيجية الحروب وبأدوات من المفترض أنها لا تنفع في صراعات الشوارع.
فاستعانوا بمراوح ميكانيكية، وموتوسيكلات صناعة صينية، وقلوب مصنوعة من الفولاذ الدمشقي ليقتحموا مستوطنات غلاف غزة فجأة، بقوة ألف مقاتل فقط ليتمكنوا خلال ساعات من القضاء على نخبة القوات الإسرائيلية (فرقة غزة) والتي تعتبر أقوى تشكيلات الجيش الإسرائيلي لديهم.
ورغم أنهم يواجهون قوات مقاومة لا تستخدم الأسلحة الثقيلة، ولا الطيران، ولا المدرعات إلا أن قتلاهم من الضباط والجنود تعدى ضعف عدد قتلاهم في حرب أكتوبر المجيدة.
ليس هذا فقط.
بل كانت الكارثة الأعظم لهم، عجزهم التام عن تحقيق أي نصر استراتيجي يحفظ لهم ماء الوجه بعد أن أحرقوا الأخضر واليابس بسلاحهم الجوي في غزة دون فائدة.
وليس هذا فقط.
بل فوجئت حكومة نتنياهو بأن قرابة مليون إسرائيلي يغادر الأرض المحتلة مغادرة نهائية ويعلنون ذلك بعد أن اكتشفوا أن جيش دفاعهم الذي لا يقهر، عبارة عن جيش من حَمَلِة الحفاضات!
ليس هذا فقط.
بل فوجئ الإسرائيليون بحكومتهم وحاخاماتهم وكبار ضباطهم السابقين يبشرونهم بقرب زوال إسرائيل وأن من أراد النجاة فعليه بالرحيل ومنهم!
أولا:
شهادة نتنياهو نفسه الذي قال بأنه سيعمل جاهدا لكي تبلغ إسرائيل عقدها العاشر ولو أن هذا غير مؤكد إذ أنها دوما تنهار في العقد الثامن
ثانيا:
شهادة (إيهود باراك) رئيس حكومتهم الأسبق الذي قال بأنه يخشى من لعنة العقد الثامن حيث لم تقم دولة يهودية في العالم لمدة ثمانين عاما مستمرة إلا في عهد داوود وفي فترة (الحشمونائيم) عقب عودتهم من سبي العراق البابلي وانهارت كلتاهما في العقد الثامن
ثالثا:
(بيني موريس) المؤرخ الإسرائيلي قال بأنه خلال سنوات سينتصر العرب والمسلمون ويصبحون أغلبية كاسحة ويصبح اليهود أقلية في هذه الأرض وصاحب الحظ الحسن هو من سيهاجر لأوربا أو أمريكا
رابعا:
(كارمي جيلون) رئيس الشاباك الأسبق قال بأن سياسة الوحشية والعنصرية المبالغة ستؤدي لحرب يأجوج ومأجوج وتنهار بها الدولة
خامسا:
(يارون ليندن) و(روني دانييل) صحفيان مخضرمان قالا بأنهما يثقان في أن بقاء أحفادهما في هذه الدولة لا يتجاوز 50بالمائة أو أقل
في ضوء هذه الحقائق وحدها يمكننا أن نفهم ونعرف كيف أن العرب طيلة عشرين عاما كانوا تحت تأثير أحداث القرن العشرين في نظرتهم لقوة إسرائيل واللوبي الصهيوني.
وأن الصورة الحقيقية لحلف الصهيونية مختلفة تماما عما كانت عليه في عنفوانها بعد الحرب العالمية الثانية وحتى بدايات القرن الجديد.