«كلوت بك».. قصة صبي الحلاق رائد النهضة الطبية في مصر

الموجز

تعتبر شوارع وحواري القاهرة القديمة، شاهدة على أحداث ومواقف هامة تسطرها كتب التاريخ، وتحمل بين جدرانها العديد من الحكايات والأسرار التي اندثرت بعضها مع الأجيال السابقة ولم يبقا سوى أطلال وأسماء ترددها الأجيال الجديدة دون الاهتمام بمعرفة أصولها التاريخية، ومن هذه الشوارع شارع "كلوت بك" الذي يقع بمنطقة رمسيس بالقاهرة والذي يشتهر بوجود "البنسيونات" التاريخية التي تعود نشأتها لعام 1860، وتم بناؤها إما بهدف إقامة الأجانب من ذوي الجنسيات المختلفة التي شاركت في أعمال حفر قناة السويس والتي بدأت في ذلك العام.

أما عن تسمية الشارع فتعود إلى الطبيب الفرنسي "انطوان بارثلمي كلوت" الشهير ب كلوت بك، وجاءت التسمية بأمر من الخديوي إسماعيل تخليداً لاسم هذا الطبيب ،وذلك عندما فكر "علي باشا مبارك" الوزير المفوض من "إسماعيل باشا"في إنشاء شارع يربط بين محطة السكة الحديد وشارع "محمد علي" ،

وأطلق عليه شارع "كلوت بك"إمتنانا لرائد النهضة الطبية الحديثة بمصر ، والذي ما زال من أشهر شوارع القاهرة ، وينبض بالحياة نهاراً وليلاً.

ربما لم يُعْطِ التاريخ للطبيب الفرنسي "كلوت بك" رائد النهضة الطبية الحديثة في مصر حقه ، ولا يعرف الكثيرون عنه سوي الشارع الذي يحمل إسمه

شارع مواز لشارع الفجالة فقط

نشأته

ولد "أنطوان بارثلمي كلوت" في مدينة ( غرونوبل ) بفرنسا في العام 1793م لأسرة فقيرة . . عاش فترة طفولة بائسة ، ونظرا لطموحه فقد عمل صبى حلاق في ( مارسيليا ) لتدبير مصاريف الدراسة ودرس الطب والجراحة في ( مونپيليه ) ، ثم بدأ بعد تخرجه في ممارسة مهنة الطب في ( مارسيليا ) ،

وفي العام 1825م قرر "محمد علي باشا"تنظيم الإدارة الصحية للجيش المصري ،

فعهد لتاجر فرنسي بالبحث عن طبيب ماهر ليتولي هذه المهمة الإستراتيجية .

كان الأمر صعبا ولم يلق العرض قبول كثيرين ،

ولكن "أنطوان كلوت"كان مهيئاً تماماً للمهمة ، وكان واضحاً للجميع أنه يسعي للمجد . . فكر "أنطوان كلوت"في مجد زرع علوم الطب في أرض بعيدة ،

لكنه علّق موافقته علي 3 شروط هى :

1- ألا يتدخل أحد في عمله كان الشرط الأول

2- وألا يتم إجباره علي السير مع الجيش كان الشرط الثاني

3- وتمثل الثالث في أن يظل علي ديانته المسيحية

ووصل الرد سريعاً بطلب تحديد موعد الوصول المتوقع ،

ووافق "أنطوان كلوت" على المجئ لمصر .

بدأ مهمته وأثبت كفاءته ، فعينه "محمد علي باشا"

رئيساً لأطباء الجيش المصرى في العام 1830م .

قصر العيني

ومع توطد علاقته بالباشا وإكتساب ثقته ، قام بإقناعه بتأسيس

مدرسة الطب التي أصبحت فيما بعد تسمى "قصر العيني" ،

فكان مقرّها الأول في قرية أبو زعبل بمركز الخانكة التابع لمحافظة القليوبية حاليًا ،

وإختار مائة طالب للدراسة ، وعين لهم أطباء من أوروبا ، لتصبح هذه بداية كلية الطب المصرية ، وكانت تضم 720 سريراً .

درَّسَ فيها فروع الطب المختلفة والتشريح ، بالإضافة لدراسة اللغة الفرنسية ، إلى أن تخرج منهم عدد كبير من الأطباء ، وتم توزيعهم على وحدات الجيش المصري ،

وأخذ عدداً آخر للعمل مع المدرسين الفرنسين ، حيث كانت المحاضرات باللغة الفرنسة ، فيقوم الطبيب المصرى بإعادة المحاضرة بالعربية ،

ومن هنا جاءت كلمة ( معيد ) .

التطعيم ضد الأوبئة

أنعم عليه "محمد علي باشا" بلقب (بك) عندما قام هو وتلاميذه بإنقاذ 60 ألف طفلاً من وباء الجدري ، وذلك بسبب تطبيقه لنظام التطعيم السنوي على الأطفال ،

كذلك لنجاحه أيضاً في مقاومة وباء الكوليرا ، كما بذل جهوداً كبيرة في مقاومة الطاعون ، وإعتنى بتنظيم المستشفيات .

مع إستمرار جهوده وإنجازاته عُيِّن رئيساً للإدارة الطبية ، وذلك المنصب يعادل منصب وزير الصحة حالياً .

أول تعداد للسكان

من أهم إنجازاته التي سيذكرها له التاريخ ،

أنه كان صاحب الفضل في إقامة أول تعداد عام للسكان في تاريخ مصر في عام 1848م ، وبذلك أصبحت لدى السلطات الصحية قاعدة بيانات دقيقة ، تبني عليها سياساتها الصحية على مستوى القطر كله . . إذن كان لأول تعداد سكاني مصري أسباب صحية واضحة ومنطقية ، في زمن كانت الأوبئة تلتهم الأرواح بلا هوادة

وسُمي وقتها ب " تعداد النفوس "

نظام التخدير

جدير بالذكر أن "كلوت بك"هو أول من إستخدم " البنج " في مصر في العمليات الجراحية الدقيقة وفي عمليات البتر ، وكان معنياً أيضاً بالصحة الوقائية ، فإهتم بالأحوال الصحية في السجون ، وكان يبحث بإنتظام عن أماكن الإحتجاز في القاهرة والأقاليم ،

كذلك أوصى بضرورة فتح طاقات داخل الزنازين لتسهيل التنفس وعدم إنتقال العدوي بين المساجين ، وكان يعترض على تكبيل المساجين بسلاسل حديد في أرجلهم ، ونجح في تحسين طعام المساجين ، كما طالب الحكومة بإنشاء سجون آدمية بدلاً من تحويل المباني القديمة لسجون ، كنوع من توفير النفقات .

لاحظ تلاميذه وفيات الأمهات والأطفال عند الولادة ، وأن الرجال يمنعون الأطباء من الدخول علي نسائهم ، ويفضلون موتهن قبل أن يقترب منهن رجل غريب . .

فكر [كلوت بك] أنه بحاجة إلي طبيبات.

أعلن عن إنشاء قسم للولادة في المستشفي ومدرسة للقابلات ، لكن أحداً لم يهتم فأرسل "محمد على باشا" من يشتري من سوق العبيد في الحبشة 10 فتيات ، وشرع "كلوت بك" في تعليمهن ،

وعلي هامش المهمة لاحظ أن هناك عدداً من البنات اليتامي صغيرات السن كان يتم علاجهن في المستشفي ، و بعد تمام شفائهن لم يطلبهن أحد من أقاربهن ، فضمهن [كلوت بك] إلي المدرسة ، ثم ألحقهن بتلاميذه في عموم البلاد ، وأبقي منهن عدداً لقسم الولادة ،

فكان "كلوت بك" بذلك أول من أنشأ قسم الولادة بمصر فى التاريخ الحديث .

عاد "كلوت بك" إلى مارسيليا في العام 1848م بعد أن قدم إستقالته من رئاسة مستشفى قصر العيني بعد تنحى "محمد على باشا" عن الحكم ،

لكنه عاد إلى مصر عام 1856 في عهد "محمد سعيد باشا"

الذي قرر إعادة إفتتاح مدرسة الطب في إحتفالية ضخمة .

كان رحيل زوجة "كلوت بك" قد أنهكه ، لكنه تماسك حتي إقترب بتجربته في مصر من المجد الذي كان يحلم به ، مستشفيات وأطباء مهرة ، وتمورجية ودايات ، وخطط تطعيم ، ومدرسة للصيدلة ، وبعد أن إطمأن إلي ما أنجزه عاد إلي مارسيليا ،

ثم مات في أغسطس عام 1868م عن عمر يناهز الرابعة والسبعين عاماً .

له الكثير من الكتب والمؤلفات العلمية مثل

كتاب " بواكير الطب الحديث " وهو من أهم المراجع الطبية ، كذلك كتاب " القول الصريح في علم التشريح " ، كما ألف عن مصر كتاب "لمحة عامة إلى مصر" وهو من أهم الكتب التي تغطي جوانب غير تقليدية عن واقع المجتمع المصري في فترة حكم "محمد علي باشا" ، والذي يعد نافذة ممتازة على الأفكار والعادات السائدة في مصر في ذلك الوقت ، وكيفية تعامل المصريين مع المرحلة الإنتقالية في علاقات السلطة والمجتمع التي كانت تمر بها البلاد .

تم نسخ الرابط