د.عبدالحليم منصور : الاجتهاد الجماعي ثقافة أمة وضرورة حياة
قال الدكتور عبد الحليم منصور أستاذ الفقه المقارن والعميد السابق لكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، إن الأمة الإسلامية عرفت ثقافة الاجتهاد الجماعي الذي يقوم على استعراض وجهات النظر في النازلة الحاصلة في الأمة ، وصولا للرأي الصواب ، والمحقق لمصلحة المجتمع ، ظهر ذلك جليا في بعض النوازل التي حدثت أيام النبي عليه الصلاة والسلام ، كما في منزل غزوة بدر ، والأسرى ، وغزوة الخندق ، وغيرها من الأمور التي حدثت في عصر الرسالة .
وأضاف أن هذا حدث أيضا في عصر الخلفاء الراشدين ، من ذلك مثلا : استشارة عمر بن الخطاب للصحابة في المرأة التي أجهضت جنينها خوفا منه ، فقال عبد الرحمن ابن عوف : أنت مؤدب ولا أرى عليك بأسا ، فقال علي رضي الله عنه : إن لم يجتهد فقد غشك ، وإن اجتهد فقدأخطأ ، أرى عليك الغرة .
وتابع أستاذ الفقه المقارن: "ومنها : لما عزم عمر رضي الله عنه على التاريخ جمع الصحابة واستشارهم فقال سعد بن أبي وقاص : أرخ لوفاة رسول الله ، وقال طلحة : أرخ لمبعثه ، وقال علي بن أبي طالب : لهجرته ، فإنها فرقت بين الحق والباطل ، وقال آخرون : لمولده ، وقال قوم : لنبوته ، فاتفقوا على أن يؤرخوا بالهجرة ، ثم اختلفوا فيما يبدأون به من الشهور ، فقال عبد الرحمن بن عوف : ابدأ برجب ، فإنه أول الأشهر الحرم ، وقال طلحة : ابدأ برمضان ، فإنه شهر الأمة ، وفيه أنزل القرآن ،وقال علي : ابدأ بالمحرم ، لأنه أول السنة ، ومن الأشهر الحرم ، فاستقر الحال على ذلك .
ومنها : ما روي أن عُمَر رضي اللّهُ عنه في خلَافَتِهِ اسْتشَارَ الصّحَابَةَ أنْ يجْمَعَ الناس على قارىء واحِدٍ ، فلم يُخالِفُوهُ ، فجَمَعَهُمْ على أُبيِّ بن كَعبٍ .
ومنها : ما روي عن عثمان عندما اختلف لسان الأمة في القراءة ، فجمع الأمة على مصحف واحد ، وحرق ما سواه من المصاحف ، وأغلق باب الفتنة ، ولا يبرح المسلمون يقطفون من ثمار صنيعه هذا إلى اليوم وما بعد اليوم ، ولن يقدح في عمله هذا أنه أحرق المصاحف والصحف المخالفة للمصاحف العثمانية ، على أنه لم يفعل ما فعل من هذا الأمر الجلل إلا بعد أن استشار الصحابة ، واكتسب موافقتهم ، بل وظفر بمعاونتهم ، وتأييدهم ، وشكرهم .
وقال أستاذ الفقه المقارن والعميد السابق لكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، إنه من خلال ما تقدم يتضح جليا أن الاجتهاد الجماعي موروث أصيل في الأمة ، تتجلى به الحقائق ، دون ريب ، أو عجلة ، أو تسرع ، ومن خلاله يتعلم العلماء الأناة ، وتبادل وجهات النظر المختلفة ، من أجل الكشف عن حكم الله عز وجل في النازلة الواقعة بالأمة .
وأضاف منصور :" ولقد أدركت الأمة أهمية استحضار هذا الموروث مرة أخرى فأنشأت مصر في القرن الماضي هيئة كبار العلماء ، ثم مجمع البحوث الإسلامية ، ثم أعيد إنشاء هيئة كبار العلماء مرة أخرى ، وكذلك الحال في جل الدول العربية ، فأنشئت المجامع الفقهية في السعودية ، وغيرها من بلدان العالم العربي والإسلامي ، بهدف تحقيق معاني الاجتهاد الجماعي ، وصولا للرأي الصواب ، لاسيما في النوازل المعاصرة ، حتى لا تثير الآراء الفردية البلبلة في المجتمع ، وربما تحدث الاضطراب ، وتكدر الصفو ، والسلم الاجتماعي بين المواطنين ".
لأجل ذلك غدا الاجتهاد الجماعي ضرورة حياة ، لا يمكن الاستغناء عنها ، لاسيما في بيان الحكم الشرعي في معقدات الأمور التي تحدث في دنيا الناس ، والتي لا يوجد لها نص مباشر في الكتاب والسنة يضط حكمها ، لذا كانت الحاجة ماسة إلى هذا النوع من الاجتهاد الذي تتلاقح فيها العقول ، وتتبلور فيه الأفكار للكشف عن حكم الله عز وجل في النازلة المعروضة ، لاسيما وأن الراي الاجتهادي الجماعي أقرب إلى الصواب والقبول ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام :" لا تجتمع أمتي على ضلالة "
في هذا ترشيد لأمر الفتوى ، وضبطها ، لاسيما في هذا الوقت الذي تجرأ فيها كثيرون على أمر الفتوى ، بما يكدر الصفو المجتمعي ، والسلام الإنساني بين البشر ، على النحو الذي يفعله بعض المنتسبين إلى الجماعات الإرهابية ، ويعاني العالم بأسره من آثار الفتاوى المنحرفة التي تضر ولا تنفع ، وتهدم ولا تبني ، وتضل ولا تهدي .