يعتبره البعض مذموماً.. المفتي السابق يوضح سبب تحريم علم المنطق
"ما حكم تعلم علم المنطق، وهل صحيح أنه من العلوم المذمومة التي حذر منها السلف الصالح؟". سؤال ورد إلى الدكتور علي جمعة، رئيس اللجنة الدينية بمجلس النواب، وعضو هيئة كبار العلماء،
وأجاب "جمعة" قائلاً إن علم المنطق يُعَرَّف بأنه: «آلةٌ قانونيـةٌ تعصم مراعاتُـها الذهنَ عن الخطأِ في الفكر»، ويطلق على علم المنطق تسميات عدة، منها: فن النظر، وميزان العقول، ومعيار العلم، فهو في الحقيقة مجموعة من القوانين العقلية التي إن راعاها الإنسان في التفكير استطاع أن يصل إلى النتائج الصحيحة الخالية من الخطأ.
وذكر أنه بهذا الاعتبار علم لا يذم؛ فالعلوم لا تذم من حيث هي علوم، إنما تذم باعتبار استعمالاتها واستخداماتها، وليست كل قواعد وقوانين المنطق بديهية، بل منها ما هو بدهي ومنها ما هو نظري يحتاج إلى تأمل وتنبيه.
وأوضح أن ما نقل من ذم تعلم المنطق والتحذير منه، إنما هو خاص بالمنطق المختلط بكلام الفلاسفة الباطل، فالمنطق المختلط بكلام الفلاسفة قد وقع فيه الخلاف على ثلاثة أقوال.
الأول: وهو التحريم، وهو اختيار الإمام ابن الصلاح، والنووي، وابن تيمية، وحكاه السيوطي عن كثير من العلماء.
وقيل: إن السبب في تحريم المنطق عند الإمام ابن الصلاح أنه يؤدي إلى الكبر، فإن مَن عرفه قويت حجته على غيره فاستطال عليه بلسانه، ويؤدي ذلك إلى كبره وعجبه، والكبر والعجب كلاهما من أمراض القلوب وأمراض القلوب حرام، فيحرم على الإنسان السعي في تحصيلها.
وما قاله الإمام ابن الصلاح أنه يقتضي الكبر والعجب، فيحرم تعلمه، فذلك يكون أيضًا في الحديث والنحو والصرف وفي كل العلوم، فكل هذه العلوم مَن أخذها دون تربية ودون عناية واهتمام بالإخلاص في تعلمه إياها أدى به هذا العلم إلى الكبر والعجب.
وقيل: إن السبب في حرمة علم المنطق عند الإمام النووي أنه يثير كثيرًا من الشبه العقلية، ويجهد العقول ويشغلها عما هو أهم، ومذهبه أن كل ما هو عبث فهو حرام.
ومحل ما قاله الإمام النووي هو المنطق المختلط بكلام الفلاسفة الباطل، ففيه من الشبه التي تؤدي بصاحبها إلى الضلال إن لم يكن ممارسًا للكتاب والسنة، وممتلئا بالعقيدة الصحيحة، أما المشتغل والممارس للسنة والكتاب مع دقة فهمه لهما ذو العقيدة السليمة فله أن يتعلم المنطق المختلط بكلام الفلاسفة الفاسد؛ ليرد حجج المبطلين بجنس ما استدلوا به، ولإفحامهم بنفس أدلتهم، ومادام تعلمه لغرض دفع الشبه عن الدين انتفى كونه من العبث، فتزول حرمته، بل قد يصير واجبا في حقه.
وأما الشيخ ابن تيمية فقد ألف في الرد على المنطقيين، لكن الحاصل أنه ما كتب لنقض المنطق حتى تعلم المنطق وعرف قواعده؛ لأنه أراد نقضه من خلال قواعده، والذي توصَّل إليه هو مجرد وجود بدائل منطقية رجحها لأن تكون بدائل عن القواعد التي وضعها المناطقة قبله، فما توصل إليه مجرد منطق لكن من وجهة نظر أخرى.
والقول الثاني: أنه ينبغي أن يُعلم، وهو المحكي عن الإمام الغزالي، فقد قال في مقدمة المستصفى: «وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به, بل هي مقدمة العلوم كلها, ومَن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا».
وما قاله الغزالي قال به عدد من المتأخرين بعده؛ كالآمدي، والبيضاوي، وابن الحاجب، وعدد من أئمة الإسلام. وقوله في السلم [ينبغي] ذكر الشيخ الملوي في شرحه: أنه يحتمل أن يكون بمعنى يجب كفاية، ويحتمل أن يكون بمعنى يستحب.
القول الثالث: وفيه التفصيل، فيجوز تعلمه لكامل القريحة المزاول والممارس للسنة والكتاب بحيث يعرف العقائد الحقة من الباطلة، أما من لم تكمل قريحته ولم يمارس الكتاب والسنة فلا يجوز له الاشتغال به.
ومحل هذه الأقوال كما ذكرنا في السابق في المنطق المختلط بكلام الفلاسفة، أما المنطق الذي اعتنى العلماء المسلمين به واستخدموه في كتبهم وهو الخالي عن كلام الفلاسفة فالمختار في حكم تعلمه أنه فرض كفاية لكل مَن تصدى للدفاع عن الإسلام؛ لأن القدرة على رد الشبه لا تحصل إلا به، وردها فرض كفاية، وما يتوقف على الواجب فهو واجب.
وهو مستحب للمشتغلين بالعلوم الشرعية؛ لأن مَن لا يعرفه لا يستطيع أن يفرِّق بين صحيح العلوم وفاسدها، ولا يدركها كمال الإدراك، كما أنه يساعد على فهم المصطلحات المنطقية التي استعملها العلماء في كتبهم، فقد انتشرت المؤلفات متأثرة بهذا العلم في أصول الفقه، والفقه، وعلم الحديث، وفي علوم اللغة؛ كالنحو والصرف والبلاغة، ولا يمكن استيعاب هذه العلوم المختلفة، ولا إدراك بناء بعضها على بعض إلا بمعرفة الاصطلاحات المنطقية.
وختم الدكتور على جمعة بفتوى شيخ الإسلام الإمام المجتهد الحجة تقي الدين السبكي، وفيها زبدة المراد، سئل العلامة المذكور عن رجل أراد الاشتغال بالعلوم الإسلامية فهل يكون اشتغاله بالمنطق نافعًا له ويثاب على تعلمه وهل يكون المنكر عليه جاهلا؟
فأجاب بقوله: «الحمد لله، ينبغي أن يقدم على ذلك الاشتغال بالقرآن والسنة والفقه حتى يتروى منها ويرسخ في ذهنه الاعتقادات الصحيحة وتعظيم الشريعة وعلمائها وتنقيص الفلسفة وعلمائها بالنسبة إلى الاعتقادات الإسلامية، فإذا رسخ قدمه في ذلك وعلم من نفسه صحة الذهن، بحيث لا تتروج عليه الشبهة على الدليل، ووجد شيخا ديِّنًا ناصحًا حسن العقيدة، أو من ليس كذلك لكنه لا يركن إلى قوله في العقائد، فحينئذ يجوز له الاشتغال بالمنطق وينتفع به ويعينه على العلوم الإسلامية وغيرها, وهو من أحسن العلوم وأنفعها في كل بحث وليس في المنطق بمجرده أصلا.
ومن قال: إنه كفر أو حرام فهو جاهل لا يعرف الكفر ولا التحريم ولا التحليل؛ فإنه علم عقلي محض كالحساب غير أن الحساب لا يجر إلى فساد; لأنه إنما يستعمل في فريضة شرعية، أو مساحة، أو مال، ولا يزدري صاحبه غيره، وليس مقدمة لعلم آخر فيه مفسدة. والمنطق وإن كان سالمًا في نفسه يتعاظم صاحبه، ويزدري غيره في عينه، ويبقى يعتقد في نفسه سقاطة نظر من لا يحسنه، وينفتح له به النظر في بقية علوم الحكمة من الطبيعي الذي ليس فيه الخطأ والإلهي الذي أكثر كلام الفلاسفة فيه خطأ منابذ للإسلام والشريعة، فمن اقتصر عليه ولم تصنه سابقة صحيحة خشي عليه التزندق أو التغلغل باعتقاد فلسفي من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر. هذا فصل القول فيه وهو كالسيف يأخذه شخص يجاهد به في سبيل الله وآخر يقطع به الطريق».