الشيخ محمد رفعت ..ابن المأمور ..أصابته عين الحسود بالعمي وموسيقار الأجيال كان خادماً له
لا يكاد يبدأ اليوم في مصر، من دون سماع صوت الشيخ محمد رفعت، أحد أعلام قراءة القرآن الكريم المعروف بـ"قيثارة السماء".
ولد الشيخ رفعت في يوم الإثنين 9 مايو عام 1882ميلادياً بدرب الأغوات بحي المغربلين بالقاهرة، وفقد بصره صغيراً وهو في سن الثانية من عمره، وقيل إن إحدي السيدات حين رأت جمال عينيه، فقالت إن عيونه تشبه عيون الملوك، وفي صباح اليوم الثاني صحي الشيخ محمد رفعت وقد فقد بصره، إلا أن الله اختاره ليكون حاملاً لكتابه الكريم يتلو آياته حياً ونستمع لصوته بعد وفاته عبر أثير إذاعات مصر والعالم أجمع.
كان الشيخ محمد رفعت يمتلك صوتاً جميلاً لا تتكرر، وأسلوب مميز في تلاوة القرآن، فالتدبر والخشوع الذى يقرأ به آيات الله يجعل كل من يسمتع إليه يعيش معاني القرآن الكريم ومواقفه بكل جوارحه لا بأذنه فقط، وكان صوته حقاً جميلاً رخيما رنانا، وكان ينتقل من قراءة إلى قراءة ببراعة وإتقان وبغير تكلف.
امتلك الشيخ محمد رفعت طاقات صوتية هائلة، جعلته يستطيع الانتقال بسلاسة شديدة بين المقامات في أثناء تلاوته للقرآن الكريم، ليس هذا فحسب، بل إنه امتلك القدرة على تراسل الحواس لدى المستمعين، فيعلم متى يبكيهم، ومتى يبهجهم من خلال آيات الترغيب والترهيب في كتاب الله عز وجل، فقد أوتي مزمارًا من مزامير داود، وإذا ما وضعنا جماليات الصوت جانبًا لننتقل إلى قوته، فان صوته كان قويًا لدرجة أنه يستطيع من خلاله الوصول لأكثر من 3 آلاف شخص في الأماكن المفتوحة.
وهبه والده لحفظ القرآن فأدخله كُتّاب بشتاك الملحق بمسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب فبدأ حفظ القرآن في سن الخامسة، ولكن توفي والده محمود رفعت والذي كان يعمل مأموراً بقسم شرطة الجمالية وهو في التاسعة من عمره فوجد الطفل اليتيم نفسه مسئولاً عن أسرته المؤلفة من والدته وخالته واخته واخيه "محرم" وأصبح عائلها الوحيد بعد أن كانت النية متجهة إلى الحاقه للدراسة في الأزهر، بدأ وهو في الرابعة عشر يحيي بعض الليالي في القاهرة بترتيل القرآن الكريم، وبعدها صار يدعى لترتيل القرآن في الأقاليم.
ولى القراءة بمسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب سنة 1918م حيث عين قارئا للسورة وهو في سن الخامسة عشرة، فبلغ شهرة ونال محبة الناس، وحرص النحاس باشا والملك فاروق على سماعه.
وقبل افتتاح بث الإذاعة المصرية سنة 1934، طلبوا منه أن يقرأ القرآن في افتتاح الإذاعة فخاف الشيخ من حرمانية هذا فاستفتى شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري عن جواز إذاعة القرآن الكريم فأفتى له بجواز ذلك فافتتحها الشيخ رفعت بآية من أول سورة الفتح (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) وصارت علماً من أعلام افتتاح الإذاعة بصوت الشيخ رفعت علي مدار السنين
ولم يقتصر حب المصريين فقط للشيخ رفعت ولكن سعت الإذاعات الأجنبية لتقديم صوته عبر أثيرها فقد سمع القائمون علي الإذاعة البريطانية بي بي سي صوته فأرسلوا إليه يطلبون منه تسجيل القرآن، فرفض ظنا منه أنه حرام لأنهم غير مسلمين وخاف أن يمس الاسطوانات التي يسجلها غير المسلمين أو أن يتم تشغيل الراديو في أماكن اللهو وفيه يقرأ القرآن، فاستفتى الإمام المراغي فشرح له الأمر وأخبره بأنه غير حرام، فسجل لهم سورة مريم.
وكانت تجمع الشيخ محمد رفعت علاقة طيبة بالفنانين والمثقفين من علماء الأزهر ورجال الدين، وذلك لأنه جعل من منزله الذي عاش فيه بالبغالة وراء مسجد السيدة زينب المكون من ثلاثة أدوار ما يسمى بالصالون الثقافى، وكان دائم التردد على الصالون وفقًا لحديث والدى، الموسيقار محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وقتئذ وليلى مراد والشاعر أحمد رامى والفنان كامل الشناوى.
غير أن علاقته بالفنان محمد عبد الوهاب كانت خاصة لدرجة أنه كان يقول دائما أنا والشيخ أصدقاء، لكنه عندما يقرأ أتحول إلى خادم تحت أقدامه.
فقال عنه الموسيقار محمد عبد الوهاب: "كنت صديقًا للشيخ محمد رفعت، فإذا ما قرأ القرآن الكريم انقلب الصديق إلى خادم، فأجلس تحت قدميه، لأنه يُشعرك حين يقرأ القرآن الكريم بأنه يخاطب الله بين يديه، فلا تدري إن كان صوته قد اختلط بالإيمان أم أن الإيمان قد اختلط بصوته".
قال عنه الشيخ محمد متولي الشعراوي "إن هذه الكتيبة من القراء الذين شدوا بألحان السماء، وبتأليف الله لهم، لم يكونوا مكررين لا أداءً، ولا أصواتًا، ولا لحنًا، بل لكل واحد منهم نغم يخدم النص، فمنهم قمة الأحكام كالحصري مثلا، ومنهم قمة الصوت الجميل كعبدالباسط عبدالصمد، ومنهم قمة الفن الرفيع الرائع المستحيل الجميل كمصطفى إسماعيل، ومنهم جامع كل ذلك في ائتلاف لا يرتفع فيه فن على فن كالشيخ محمد رفعت ، فهو كل هؤلاء جميعًا، ويزيد أنه عالم بما يقرأ، تستطيع أن تفهمه بمجرد نطقه للكلمة، ولمحبيه".
كانت معظم تلاوات الشيخ محمد رفعت بمسجد فاضل باشا في القاهرة يقصده الناس هناك للاستماع إلى تلاواته حتى الملك فاروق وكانت تبث الإذاعة المصرية حفلاته من هناك، وكان صيفاً يتلو القرآن في جامع المرسي أبو العباس في الإسكندرية . إضافة إلى تلاواته الحية على الهواء من دار الإذاعة المصرية التي تعاقدت معه من أول افتتاحها لا سيما في رمضان كان يتلو تلاوتين يومياً على الهواء فيما عدا يوم الأحد وكان يقرأ القراءة الأولى من الساعة التاسعة وحتى العاشرة إلا الربع مساءً والثانية من الساعة العاشرة والنصف وحتى الحادية عشرة
والربع مساءً.
ويروى عن الشيخ أنه كان رحيماً رقيقاً ذا مشاعر جياشة عطوفاً على الفقراء والمحتاجين، حتى أنه كان يطمئن على فرسه كل يوم ويوصي بإطعامه. ويروي أنه زار صديقا له قبيل موته فقال له صديقه من يرعى فتاتي بعد موتي؟ فتأثر الشيخ بذلك، وفي اليوم التالي والشيخ يقرأ القرآن من سورة الضحى وعند وصوله إلى (فأما اليتيم فلا تقهر) تذكر الفتاة وانهال في البكاء بحرارة، ثم خصص مبلغاً من المال للفتاة حتى تزوجت.
كان زاهداً صوفي النزعة نقشبندي الطريقة يميل للناس الفقراء البسطاء أكثر من مخالطة الأغنياء فقد أحيا يوماً مناسبة لجارته الفقيرة مفضلاً إياها على الذهاب لإحياء الذكرى السنوية لوفاة الملك فؤاد والد الملك فاروق.
مرضه ووفاته
أصابت حنجرة الشيخ محمد رفعت في عام 1943م زغطة أو فواق تقطع عليه تلاوته، فتوقف عن القراءة. وقد سبب الزغطة ورمٌ في حنجرته يُعتقد أنه سرطان الحنجرة، صرف عليه ما
يملك حتى افتقر لكنه لم يمد يده إلى أحد، حتى أنه اعتذر عن قبول المبلغ الذي جمع في اكتتاب (بحدود خمسين ألف جنيه) لعلاجه على رغم أنه لم يكن يملك تكاليف العلاج، وكان جوابه كلمته
المشهورة "إن قارئ القرآن لا يهان".
فارق الشيخ الحياة في 9 مايو عام 1950م وكان حلمه أن يُدفن بجوار مسجد السيدة نفيسة حتى تقرر منحه قطعة أرض بجوار المسجد فقام ببناء مدفنه عليه، وقد كان من عادته أن يذهب كل يوم اثنين أمام المدفن ليقرأ ما تيسر من آيات الذكر الحكيم.
وذكر محمود توفيق الخولي في كتابه قيثارة السماء، أن أشد المواقف عجبا فهي أن أولاد الشيخ عرفوا أن للشيخ حسابا في بنك مصر، وظن الأولاد أن به ثروة عظيمة، وبعد مجيء مندوب
مصلحة الضرائب ومندوب البنك وفتح الخزانة، لم يجدوا إلا ساعة يد وروشتة طبيب ومصحف فقط.