إشادات بالدور وخطابات سياسية من الخارج..حكايات أحمد زكى مع ”ناصر 56” الذي أخرجه صفوت الشريف للنور بعد تعنت ممدوح الليثي

جريدة الموجز

فنان كبير وعبقري، صنع مجدًا في عالم الفن لم يصل له أحد من جيله، برع في تقمص الأدوار لدرجة تشعرك بأنك أمام شخصيات حقيقة مثل "البواب والمحامي والدجال"، وكان للفنان الراحل أحمد زكى أدوار وطنية وسياسية كثيرة وثقت حبه لوطنه، وهو ما نرصده في السطور التالية..

بعدما نجح فيلم «ناصر 56»، وحقق نجاح ساحق شعر "الإمبراطور" الراحل أحمد زكى بالسعادة والفخر، فقد نقل إتقانه لمرحلة أعلى، حيث عاش الشخصية الحقيقية بكل ما فيها من تفاصيل ومشاعر وانفعالات، واختارته الصحف ضمن أهم عشر شخصيات عربية برزت فى التاريخ السينمائى للعام 1996، ولم تكن تلك الإشادة سر فرحه الوحيد، وواجهت صناعة الفيلم عقبات، كما حقق ردود فعل هائلة، وأهم الخطابات التى وصلت النجم الراحل مشيدة بالفيلم وبأدائه فيه.

أطلق المخرج محمد فاضل الشرارة الأولى قبل تصوير الفيلم، حيث قال في تصريحات له إن ممدوح الليثى رئيس قطاع الإنتاج بالتليفزيون يحارب بعنف فيلم جمال عبدالناصر ويضع أمامه العراقيل حتى لا يقوم بإخراج الفيلم، مؤكدًا أن الفيلم سيخرج إلى النور بالعرق والدم والدموع، فثار الليثى وقرر إحالة المخرج إلى التحقيق، وأحال السيناريو إلى اللجنة العليا للسياسات الإعلامية، وتنبأت بعض الصحف بأن هذا الإجراء تمهيد لرفض تصوير الفيلم.

وبعدما نشبت مشكلات عديدة بين ممدوح وفاضل، ورغم المصروفات الباهظة التى تكبدها قطاع الإنتاج من شراء الفيلم الخام أبيض وأسود، واستقدام ماكييرة من لبنان وبناء ديكورات الفيلم، أصبح الفنان أحمد زكى فى مأزق، فقد تفرغ للعمل فى هذا الفيلم، واعتذر عن العديد من الأفلام منها «الطريق إلى إيلات».

يوم الأربعاء 22 يوليو من عام 1993، وفى تمام الساعة الحادية عشرة، عُقد اجتماع ضم ممدوح الليثى، رئيس قطاع الإنتاج، والكاتب محفوظ عبدالرحمن مؤلف الفيلم، والمخرج محمد فاضل، وبحضور الفنان أحمد زكى الذى كان متلهفاً لمعرفة نتائج الاجتماع بعد سلسلة لقاءاته المنفردة بمسئول الإنتاج، وأشارت كل الشواهد إلى أن الأزمة التى واجهت مشروع الفيلم الكبير بدأت فى الانفراج، فقد توجه الكاتب محفوظ عبدالرحمن إلى منزله مطمئناً، خاصة بعد أن أبدى له صفوت الشريف، وزير الإعلام وقتها، قبلها بيومين، اهتماماً خاصاً بالاطلاع على ملخص الفيلم الذى وصل مبنى ماسبيرو بالفاكس، بعد ساعتين فقط من طلب الوزير فى الثامنة والنصف صباحاً.

ترك المخرج محمد فاضل مبنى التليفزيون عقب نهاية الاجتماع إلى مكتبه الخاص بالهرم، وكان واضحاً أنه أخذ وعداً بتوفير كافة متطلباته الإنتاجية التى كانت السبب الرئيسى فى تأجيل العمل، ولولا هذا التدخل من وزير الإعلام، وجلسة الصلح بين ممدوح الليثى ومحمد فاضل لكان أحمد زكى أصيب بإحباط حقيقى، فقد كان على مدى شهرين يستيقظ وينام ويتحرك ويتكلم وينظر ويناقش بشخصية وأسلوب عبدالناصر الذى تقمصه تماماً بلا مبالغة، واستسلم خلالها لتجارب قاسية، لدرجة أنه اقترح أن تجرى له جراحة تجميل بالوجه ليقترب من ملامح عبدالناصر الحقيقية، لولا أن أقنعه المخرج بعدم ضرورة ذلك، والاكتفاء بإجراء تجارب مكياج خاصة فى الأنف، وعدسات لامعة بلون عينى عبدالناصر، وقص جزء من شعر مقدمة الجبهة، وتصفيف شعر الرأس إلى الخلف مع تبييض شعيرات «الفودين» التى كانت تميز الرئيس عبدالناصر.

في يوم 14 أغسطس 93 جاءت نتائج الاجتماع بأن بداية تصوير أول المشاهد الداخلية للفيلم باستوديو النحاس بالهرم، الذى يضم ديكورات مطابقة لمنزل عبدالناصر بمنشية البكرى، وشقته الخاصة بالإسكندرية، ومكتبه بمجلس الثورة ورئاسة الوزراء، ودارت الكاميرا يوم 19 أغسطس 93 لتصوير أول المشاهد الخارجية للفيلم بفندق ماريوت القاهرة، فى ديكورات قصر من عصر ما قبل ثورة 1952 لتصوير مشاهد بعض الباشاوات ما قبل الثورة ومن ضمنهم الممثل عبدالله فرغلى، وفى 9 سبتمبر باستوديو النحاس بالهرم جرى تصوير أول المشاهد الداخلية فى ديكورات منزل عبدالناصر بمنشية البكرى.

اشترك زكى فى أداء المشهد (82) وأدى الدور بعد تركيب أنف صناعية، استغرق تركيبها وضبط المكياج نحو 3 ساعات، بمعرفة الماكييرة البنانية «مارينا»، وشارك فى المشهد الفنانون عادل هاشم فى دور عبداللطيف بغدادى، والوجهان الجديدان عبدالواحد العشرى فى دور زكريا محيى الدين، ومحمد مرزبان فى دور حسين الشافعى، وكان زكى فى هذا اليوم متوتراً وقلقاً للغاية حتى أنه كان يسأل الجميع: أنا كنت كويس؟

وبعد انتهاء تصوير الفيلم وعمليات المونتاج وغيرها، أرسل المنتج ممدوح الليثى خطاباً هاماً احتفظ به زكى بين أوراقه ويقول نصه: «الأخ أحمد زكى، إن شاء الله، إن شاء الله سيعرض فيلم ناصر 56 فى شهر يوليو 1996، وهذا تخطيط لعرض الفيلم فى الوقت المناسب احتفالاً بثورة يوليو.. إمضاء ممدوح الليثى».

بعد عرض الفيلم توالت ردود الفعل، خاصة من الأوساط النقدية والصحفية، وذلك عقب النجاح الكبير الذى حققه الفيلم فور عرضه، ولكن تظل هناك أهمية استثنائية للخطابات التى تلقاها النمر الأسمر من سياسيين وشخصيات عامة كانت قريبة إلى حد ما من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.

وكتب له سامى شرف، سكرتير مكتب الرئيس عبدالناصر، والشخصية المقربة جداً من الرئيس عبدالناصر، خطاباً قصيراً يقول فيه «الأخ العزيز الأستاذ أحمد زكى، هما كلمتين وبس: لقد دخلت الفيلم (ناصر 56) وأنا غير مقتنع وخرجت وأنا مقتنع.. المخلص سامى شرف».

وأرسل وزير الإعلام فى عهد عبدالناصر، محمد فايق، خطاباً آخر لأحمد زكى يقول فيه «لقد استطاع هذا العمل الفنى العظيم أن يحقق قدراً أكبر من المصالحة الوطنية لتاريخ مصر، نحن فى حاجة إليها من أجل المستقبل. واستطاع الأستاذ أحمد زكى أن يجسد شخصية عبدالناصر باقتدار فاق كل تصور. فتحية له ولكل أسرة هذا العمل الكبير. محمد فايق».

كما قام الحزب العربى الديمقراطى الناصرى بعقد تكريم خاص لأحمد زكى فى النادى الدبلوماسى، وأهدى له كلمة خاصة احتفظ بها زكى بين أوراقه، وقدمها له الراحل ضياء الدين دواود، ويقول نصها «ونحن نكرم الأستاذ أحمد زكى ورفاقه ممن اشتركوا فى الفيلم التاريخى ناصر 56، وتقديراً لعبقريته فى دراسة شخصية الزعيم جمال عبدالناصر، وتقمص شخصيته بإتقان رائع. هذا الفيلم الذى عرض لحظة خالدة فى التاريخ، تمثل عظمة القائد وعظمة القرار، وعبقرية وشموخ الموقف والقرار، لحظة فى تاريخ النضال العربى والعالم الثالث كله، فى إحدى المواجهات مع الطامعين والمتجبرين. ولا شك أن الفيلم تجميع لعبقريات فذة، تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً. تحياتى للأخ العزيز أحمد زكى ولعبقريته المخلصة المبهرة، ولكل من أسهم فى الفيلم، وتمنياتى باضطراد النجاح وإتمام لحظات التأملات الخالدة، مع أطيب المنى.. ضياء الدين دواود».

أما أهم الرسائل التى وصلته وأسعدته سعادة بالغة، فكانت من فريق أول محمد فوزى، قائد عام الجيوش العربية لمواجهة إسرائيل ووزير الحربية الأسبق، وهذا نص رسالته:

«ابننا المناضل أحمد زكى

شاهدتك وأنت تجسد شخصية روح زعيم الأمة العربية الخالد الرئيس جمال عبدالناصر، فقررت أنك مقاتل قومى من الدرجة الأولى، قبل أن تكون ممثلاً بارعاً. كما أحسست فى نفسى وأنت تركز كل قدراتك وفنك الرفيع أنك تسخرها لتقدمها لشباب الجيل الحالى الذى لم يتمتع بالتعرف عن قرب لشخصية الزعيم، ونجحت خلال ساعتين وثلت من بث روح الانتماء للوطن والعروبة التى فقدها الشباب منذ رحيل الزعيم فى 28 سبتمبر 1970.

المناضل أحمد زكى وهو على قمة أسرة فيلم ناصر 56 له الفضل فى إعادة مثل عبدالناصر العليا وأهدافه وآماله إلى الشارع السياسى المصرى والعربى، بعد مضى ستة وعشرين عاماً من رحيل مفجر إبداعات الشعوب العربية.

أشكرك بكل جوانحى أيها المناضل، وأتمنى لك ولابنك الشبل الفخور بأبيه وبأمته العربية، كل سعادة وهناء فى ظل روح الانتماء والولاء للقومية العربية التى جسدتها بفنك وعبقريتك، وأنت تعيد إلى قلوب الشباب صورة الزعيم الراحل عبدالناصر، وسلام عليك وعلى ابنك وعلى أسرة فيلم ناصر 56.. فريق أول م محمد فوزى».

وعلى الصعيد النقدى والصحفى كتبت مجلة «إكسبريس» الفرنسية عن الفيلم وبطله أحمد زكى أنه يساهم فى إيقاظ الحس الوطنى والوعى السياسى لدى أجيال متعاقبة فى مصر بما يعكس نجاحه الجماهيرى، حيث بدأ كاتب المقال فى 10 أكتوبر 1996 سؤالاً بالصياغة الآتية: «هل ستعود مصر نارية؟ منذ شهر وناصر 56 الذى يحكى تأميم قناة السويس يضرب فى مصر أرقام التوزيع من خلال المشاهدين فهناك مشهد بشكل خاص يلهب كل الصالات، ذلك الذى يقف فيه الرئيس جمال عبدالناصر فى شرفة ميدان البورصة بالإسكندرية وهو يعلن تأميم شركة قناة السويس فى 26 يوليو 1956 فإن التنهدات تعلو وسط أحداث الفيلم وترتفع صيحات الحماس وسط تصفيق هائل من المشاهدين».

ويضيف كاتب الإكسبريس: «ناصر 56» يحقق نجاحاً مدهشاً، أكثر من مليون مصرى شاهدوا هذا الدرس فى التاريخ، أخرجه محمد فاضل وأنقذه من المباشرة أحمد زكى الذى أدى دور عبدالناصر، فكان أكثر طبيعية، ويحكى الفيلم قصة رفض تمويل السد العالى فكان التأميم وطرد البعثة الفرنسية - البريطانية".

تم نسخ الرابط