كانت قصرا للخديوى عباس حلمى .. حكاية سرايا ”المجانين ” بالعباسية
السرايا الصفراء، اسبتالية المجاذيب، هى الوصف الذى اشتهرت به مستشفى الأمراض النفسية والعصبية بمنطقة العباسية، الذى يعود تاريخ تأسيسه إلى مئات السنوات، وعلى الرغم من صمود المستشفى إلى الآن، إلا أن الأحداث التاريخية التى مر به المستشفى، تؤكد أنه كتب عليه الإهمال، ولازمه الحظ السىء، بل وعاش سنوات من التعاسة، وبين الأمل والألم، كان تاريخ المستشفى الذى لم يشهد يوما طيبا للمبنى أو للمرضى منذ أن تعرض المستشفى للظلم البين على المماليك الذين جردوا المستشفى من مهامه وحولوها من مكان لاستشفاء مرضى الأمراض النفسية، إلى مخازن للنحاس، وتم تأجيرها لمن أفقدها الهوية، حتى هرب سكان المستشفى في الشوارع، وكانت جريمة اغتيال عباس حلمى الأول، بمثابة نقطة التحول في حياة المستشفى، بعدما أصيب المتهمون باغتياله بالجنون، وهو ما نعرضه بتفاصيل أكثر في التقرير التالى.
ومستشفى الأمراض العقلية والنفسية، أنشئت في عهد «أحمد بن طولون»، وتم اختيار منطقة العباسية وهى منطقة صحراوية، وفى العصر الفاطمى، عرفت الصحراء التى أقيمت على أرضها المستشفى بـ"صحراء الريدانية"، نسبة إلى "ريدان الصقلى"، حامل المظلة التى تظلل على رأس الخليفة العزيز بالله الفاطمى، وهو أول من أصلح الصحراء وأقام بها بستانًا كبيرًا.
وبدأت الصحراء التى أقيمت عليها أرض المستشفى، تكتسب سيرة طيبة، حيث أسس السلطان قلاوون، "بيمارستانات"، وهو كناية عن المستشفى باعتبارها أماكن للاستشفاء، وأحدثت هذه المستشفيات طفرة غير مسبوقة في علاج الأمراض المتباينة، ومنها الأمراض العقلية، إلا أنه بمرور السنوات شهدت الأحوال تدهورا كبيرا داخل هذه المستشفيات بسبب انتشار الظلم والإهمال الذى كان عليه المماليك وقيامهم بتأجير قاعات المستشفى ومرافقه، لاستخدامها مخازن، ووكالات لصناع وتجار النحاس، وهو ما اضطر بمرضاها النفسيين –الذين لم يحتملوا هذا الظلم البين، وانقلاب الأحوال إلى الأكثر سوء-، للهروب من المستشفى بشكل تدريجى، ولم يتبق بها سوى المرضى الذين لا علاقة لهم بالأمراض العقلية، وتجمدت أحوال المستشفى، إلى أن خضعت مصر للحكم العثمانى، فقام محمد على باشا، والى مصر ومؤسس الأسرة العلوية بنقلهم إلى مستشفي خاصة بالأمراض العقلية تم تأسيسها في الأزبكية ومستشفى آخر أنشئ فى منطقة ورش الجوخ ببولاق، وعندما اعتلى عباس حلمى الأول، ثالث حكام الأسرة العلوية عرش مصر أمر بالاهتمام بمنطقة المستشفى المهدرة، حيث كان مقر إقامته بالقلعة، لكنه كان كثيرا ما ينزل منها إلى صحراء الريدانية، فأعجبته تلك المنطقة، برمالها الذهبية، وطقسها المعتدل، فأطلق عليها اسم «صحراء العباسية»، بعد أن أمر بتشييد سراى له فيها، تم بناؤها فوق ربوة عالية لا تصل إليها مياه الفيضان، ووصل عدد شبابيك القصر حوالى ألف شباك، ثم أقام عددًا من المدارس العسكرية، وشق طريقًا ممهدًا بين العباسية والقاهرة.
وبعد اغتيال عباس الأول، نتيجة مؤامرة داخل قصره بمدينة بنها فى ١٣ يوليو ١٨٥٤، حيث نفذ المؤامرة اثنان من العبيد، وتم حبسهما في قصر العباسية، وبعد فترة من حبس القاتلين أصيبوا بالجنون فعليا، وأصدر والى مصر سعيد باشا، مرسوما بإيداع كل من يعثر عليه مجنونا أو مجذوبا بقصر العباسية، وامتلأ القصر على آخره بالمجاذيب من كل مصر المحروسة، فأصيبوا بمرض آخر اسمه المنخوليا، وهو كناية لمرض القلق الدائم والتعصب الحاد كنتيجة لضغوط الازدحام والاكتظاظ، وهنا رق قلب سعيد باشا، وأمر بتقديم الرعاية الإنسانية والصحية لنزلاء المستشفى.
وعندما تسلم الخديوى إسماعيل، مقاليد الحكم المصرى، خلفا لوالده سعيد باشا، الذى قرر نقل هؤلاء المرضى إلى مستشفى الأزبكية، ولكن تحت الضغوط والنفوذ البريطانية، زار وفد من الأطباء الإنجليز مستشفي الأزبكية، وأكدوا عدم صلاحيتها للعلاج، وأوصوا بضرورة أن تتدخل بريطانيا لبناء مستشفي جديدة في مصر، وتم إغلاق المستشفيات القديمة، وبناء مستشفى جديد، بديلا عن قصر عباس الأول –أى مستشفى العباسية-، لكن الحظ السئ الذى يحيط بالمستشفى ومرضاها جعل النيران تلتهمها في عام 1883 فى عهد الخديوى توفيق، واحترقت كل المبانى الخاصة بها إلا مبنى صغير، قوامه طابقين تم طلاؤهما باللون الأصفر، ومن هنا انتشرت التسمية بالسرايا الصفراء، التى لازمتها حتى يومنا هذا.
وفى عهد الخديوى عباس حلمى الثانى، تم تصميم المستشفيات العقلية على النظام الإنجليزى حيث قام بإدارتها الأطباء الإنجليز، ومنهم الدكتور وارنج، الذى وضع الأسس اللازمة لقبول ودخول وخروج المرضى من وإلى المستشفى، وتم تخصيص عنابر للنساء مغلقة محكمة الغلق على النظام الألماني، وبدأ تنظيم العمل بالمستشفيات العقلية والنفسية طبقا للأمر الإداري لعام 1910، وقانون مستشفى المجاذيب عام 1922، والذي تضمن قانون "التمرجية"، ثم قانون 141 لسنة 1944 وهو القانون المعمول به حتى الآن، ولا تزال المستشفى على حالتها القديمة إلا أنه تم اقتطاع الكثير من مساحتها واستخدامها في مشروعات أخرى مثل إنشاء حديقة العروبة، وأرض المعارض، ووزارة الاستثمار، والمعهد القومي للتدريب التابع لوزارة الصحة.