مرصد الأزهر يكشف الدور الخفي لـ”الذئاب المنفردة” و”خلايا التماسيح ” في داعش
نشر مرصد الأزهر لمكافحة التطرف اليوم، تقرير مفصل حول العلاقة المتشابكة بين الجريمة والإرهاب.
وإلي نص التقرير:" يعيش العالم حاليًا وضعًا متأزّمًا جرّاء العديد من الأسباب، والتي من بينها العمليَّات الإرهابيَّة التي تُرتكب باسم الدّينِ، وما يصحبها من ردود فعلٍ على الجانب الآخر تصعد التوتر. والناظر إلى القارة الأوربيَّة يرى تلك الحالة بوضوحٍ؛ حيث تعاني أوربا من التطرُّف والعنصريَّة معًا، وهو ما حتَّم على دولها القيام بمواجهةٍ حاسمةٍ لوقف انتشارهما في القارَّة.
وبتحليل الأحداث الإرهابيَّة التي تُرتكب في العالم وخاصَّة أوربا نجدُ خيطًا لا يمكن تجاهله يقودنا إلى وجود روابط متشابكةٍ ومتداخلةٍ بين الإرهاب والجريمة، والتي تتبلور عادة خلف قضبان السُّجون التي تضمُّ عددًا من المتهمين، سواء في قضايا الإرهاب أو السَّرقة أو القتل أو المخدّرات أو السّلاح وغيرها من تهمٍ لا تقل بشاعةً عن إزهاق النفس البشريَّة؛ حيث وجدت التنظيمات الإرهابيَّة ضالَّتها المنشودة في أصحاب السّجل الإجراميّ الحافل بالانتهاكات الأمنيَّة وجرائم لا تقل خطورة عن جرائمها؛ وذلك في ظلّ الضَّربات الأمنيَّة الموجَّهة ضدَّ معاقلها مثل تنظيم "داعش" الإرهابي؛ بهدف إحياء فكرها المتطرّف، وتنفيذ عمليّات أكثر فتكًا تعويضًا لخسائرها.
هذا الخيط الرّابط بين الجريمة والإرهاب دفع مرصد الأزهر في العديد من المناسبات، وكذا المتخصصين في مجال مكافحة التطرف، إلى التحذير مرارًا من جمع أصحاب الفكر المتطرّف والمتهمين في قضايا الإرهاب مع أولئك المسجونين على ذمَّة قضايا السَّرقة والقتل وغيرها من تهمٍ في نفس السُّجون؛ خوفًا من استغلال عناصر التنظيمات الإرهابيَّة لهم في تدعيم صفوفها، والاستفادة من خبراتهم الإجراميَّة للهرب من المراقبة الأمنيَّة وشراء الأسلحة الغير مرخَّصة والموادّ المتفجّرة، التي تمكّن خلاياها النائمة من تنفيذ العمليَّات الإرهابيَّة بسهولةٍ بعيدًا عن أعين أجهزة الأمن.
وما يؤكد تلك الروابط المتداخلة بين الإرهاب والجريمة تصريحات "كريستوفر ميلر"، مدير المركز الوطنيّ الأمريكيّ لمكافحة الإرهاب، الذي أكد فيها سعي تنظيم "داعش" الإرهابي للتمدُّد عالميًّا مع وجود نحو 20 فصيلًا تابعًا له على الرغم من اجتثاثه من سوريا والعراق والقضاء على قياداته. قال ميلر: «أظهرَ داعش مرارًا قدرة على النهوض من خسائر فادحة تكبدها خلال السنوات الست الماضية بالاعتماد على كادر مخصص من القادة المخضرمين من الصفوف المتوسطة، وشبكات سريّة واسعة النطاق، وتراجع ضغوط مكافحة الإرهاب»، مضيفًا أن الشبكة العالمية للتنظيم الإرهابيّ خارج سوريا والعراق تشمل حاليًا نحو عشرين فصيلًا بين فرع وشبكة كذلك يسعى التنظيم لمهاجمة أهداف غربيّة.
هذه التصريحات المنشورة بتاريخ 18 سبتمبر 2020 بجريدة "الشرق الأوسط"، سبقتها معلومات كشفت عنها صحيفة "صنداي تايمز" البريطانيَّة في تقرير لها، عن خططٍ جديدةٍ للتنظيم الإرهابيّ لتسليح وتمويل المتطرّفين في العالم الذين يختبؤون بعيدًا عن أعين الأجهزة الأمنيَّة، مطلقةً عليهم مسمَّى "خلايا التماسيح" في دلالة على قدرة هؤلاء المتطرّفين على التواري بعيدًا عن أعين أجهزة الأمن تحت السَّطح كما يفعل التمساح بالاختباء تحت سطح الماء إلى حين الانقضاض على فريسته.
ويرى مرصد الأزهر أن هذا الأمر يؤكّد تعامل تنظيم "داعش" الإرهابي مع هزائمه بواقعيَّة، حيث أجرى استعداداته لتعويض خسائره فيما بعد عن طريق زرع خلايا نائمةٍ في أنحاء متفرقةٍ من سوريا والعراق تحديدًا، كما شكّل فرق اغتيالٍ لاستهداف أعدائه إلى جانب تخطيطه لتنفيذ هجماتٍ جديدةٍ في العالم، على الرغم من خسارة الأراضي التي سيطر عليها. تلك الخلايا المسمّاة بـ "التماسيح" كشفتها إحدى الرَّسائل الموجَّهة في يناير 2019 إلى زعيمٍ محلّيّ للتنظيم الإرهابيّ في سوريا يحدّد فيها أحد القياديّين البارزين الذي يطلق على نفسه اسم "أبو طاهر الطاجيكي" خطَّة لمساعدة عناصر التنظيم في الخارج لشنّ هجماتٍ؛ حيث جاء في نصّ الرسالة:
"الأخ (الطاجيكي) لديه أفراد ويريدون العمل في مناطق خارج تكاليف الولايات البعيدة، فلا مانع لدينا من أن يتم التواصل معهم وتنفيذ العمليات ... نرسل لك، اقتراحنا، وهو إنشاء خلايا تماسيح.. سوف يقتصر عملهم على قتل الأعداء، وأخذ أموالهم وإرسالها إليك -إذا كنت تريد ذلك".
كما أشارت الرسالة إلى طلب الإذن لتأسيس مكتب للعلاقات الخارجيَّة لإدارة العمليّات في أوربا وغيرها من المناطق في العالم!
وبناءً على تلك المعلومات التي نشرتها الصَّحيفة البريطانيَّة يتَّضح لنا أن هذه الخلايا تكوَّنت بالفعل قبل سقوط تنظيم داعش الإرهابيّ في سوريا والعراق، وذلك في أوجِ الضَّربات الأمنيَّة الموجَّهة ضدَّه لكن كان ينقصها (المال والسّلاح) المحرّك الأساسيُّ للعمليَّات الإرهابيَّة والذي من أجله قد تتحالف التنظيمات المتطرّفة مع أشخاصٍ أبعد ما يكون عن أيديولوجيَّتهم لتيسير عملهم في ازدواجيَّة واضحةٍ.
جديرٌ بالذّكر أن المعلومات التي كشفت عنها صحيفة "صنداي تايمز" البريطانيَّة في وقتٍ سابقٍ من العام الماضي كانت موجودة على قرص صلبٍ تمَّ الحصول عليه خلال عمليَّة تبادل لإطلاق النار بين إحدى الخلايا النائمة لتنظيم "داعش" الإرهابي والقوّات المحليَّة في منطقةٍ صحراويَّةٍ محرّرةٍ شمال شرق سوريا.
هذا الاستعداد للهزيمة يبرهن على قدرة التنظيم للعودة مجدَّدًا من تحت أنقاض هزائمه؛ فقد كشفت بيانات ميزانيَّة "داعش" لمجموعةٍ تضمُّ 65 مسلَّحًا في منطقة "دير الزور" وقت قصف قوّات التحالف لمناطق تمركزه، أنه خصّص مبالغ ماليَّة للعمل السريّ في حين كشفت وثائق أخرى عن سعي خلاياه النائمة إلى إنشاء شركاتٍ خاصَّةٍ مثل شراء الناقلات وتجارة النفط؛ لاستخدامها في مراقبة أجزاءٍ من الصَّحراء والسَّيطرة عليها؛ لإعادة تكوين دولتهم المزعومة ولَمِّ شمل عناصر التنظيم من كافة أنحاء العالم.
ولعلَّ ذلك يفسّر الشّعار الجديد الذي رفعه التنظيم الإرهابيّ مؤخرًا "صحراء تُحكم بشرع الله، خير من ألف مدينة كافرة"؛ لبسط سيطرته مجدَّدًا، أيْ أن الخلايا التي زرعها وقت سقوطه بدأت تؤتي ثمارها رغم الخسائر السابقة، فنجده يقوم بعمليّات نوعيَّة ضدَّ قوّات الجيش والمدنيّين في المناطق القريبة من الفرات في سوريا حيث الصَّحراء الشّاسعة رغبةً منه في تحويل تلك البقعة إلى دولةٍ له مستغلًّا قربها مع حدود العراق.
فـ "خلايا التماسيح" التي كشف عن وجودها في وقتٍ سابقٍ من العام الماضي توفر إجاباتٍ تكاد تكون وافية للكثير من الأسئلة حول مدى قدرة تنظيم داعش الإرهابيّ، على العودة مجدَّدًا أو إمكانيَّة اندماجه والعودة تحت مسمًّى آخر، أكثر فتكًا وشراسة، وعن وسائله في هذا الشأن.
التداخل بين الجريمة والإرهاب في آسيا
ونبدأ من آسيا أولى الإجابات عن هذا التساؤل؛ فعقب الكشف عن تلك الخلايا وقعت سلسلة من التفجيرات المروّعة في سريلانكا ضدَّ أهداف مسيحيَّةٍ وفنادق، علمًا بأن الفاصل الزَّمنيَّ بين هذه المعلومات السّابق ذكرها وتلك التفجيرات شهرٌ واحدٌ فقط، وهو ما يؤكّد بدء تحرُّك تنظيم "داعش" الإرهابي فعليًّا لإرساء قواعده خارج سوريا والعراق في محاولةٍ للتغلُّب على ضربات قوّات التحالف ضدَّه، واستغلالًا للعناصر الموالية له في بعض البلدان التي تعاني من الانقسامات الطائفيَّة مثل "سريلانكا" التي شهدت قبل تلك التفجيرات عددًا من الأحداث العنيفة بين البوذيّين والمسلمين، وهو ما جعلها أرضًا خصبة أمام تنظيم "داعش" الإرهابيّ؛ لاستخدام "خلايا التماسيح" ضدَّ أهدافٍ حيويَّة بها؛ لإحداث التأثير المدوّي المرغوب فيه.
وعلى الرَّغم من اتجاه جميع المؤشّرات إلى "الذّئاب المنفردة" أحد أجنحة خلايا "داعش" النائمة باعتبارها الوسيلة الأكثر فاعليَّة للتنظيم لإثبات وجوده، إلا أنه بملاحظة الفكر الذي اتبعه التنظيم الإرهابيّ طوال فترة تواجده في سوريا والعراق، والبيانات التي تصدر عنه يتأكّد للجميع عدم اكتفائه ببضع عملياتٍ صغيرةٍ تُنفَّذ هنا وهناك، موقعة عددًا قليلًا من الضحايا، وهو ما لا يرضي غرور قادة التنظيم المتهاوي، ممَّا يجعل من "خلايا التماسيح" الخيار المفضَّل أمامهم؛ خاصَّة مع ارتباط تلك الخلايا بالقيادات وتلقّي الأوامر منهم مباشرة في أغلب الأوقات، أيْ ما زالت خيوط اللعبة في يده يحرّكها وقت ما يشاء وكيف ما يشاء، وهو ما يرضي غرور عناصره، ويشعرهم بوجود التنظيم الإرهابيّ؛ خاصَّة مع حاجة عناصر تلك الخلايا إلى أن تتلقى تدريبًا مكثفًا على تنفيذ العمليَّات الإرهابيَّة المخطَّط لها، سواء بشكلٍ مباشرٍ، أو عن طريق وسطاء داخل الدَّولة المستهدفة.
أمَّا "الذئاب المنفردة" فهي على النقيض من ذلك حيث تنفذ خططًا وضعتها بنفسها وبأسلحةٍ بسيطةٍ وهو ما يجعلها لا توقع عددًا كبيرًا من الضحايا، مقارنة بعمليّات "خلايا التماسيح" التي توقع عددًا كبيرًا من الضَّحايا بسبب الدّقَّة التي تحيط بالخطَّة منذ وضعها إلى حين تنفيذها.
وبالرُّجوع إلى تفجيرات سريلانكا التي خلَّفت 359 قتيلًا وأكثر من 500 مصابًا، نجد أن الفيديو الذي بثته وكالة الأنباء التابعة لتنظيم"داعش" الإرهابي وقتها كشف عن وجه أحد المنفذين يُدعى "زهران هاشم"، والذي كشفت CNN نقلًا عن أحد المصادر الهنديَّة أنه تلقى تدريبًا على يد أحد الأشخاص الموالين لـ "داعش" في سريلانكا، قبل تلك التفجيرات بوقتٍ كافٍ.
هذه المعلومات سبقها تصريحٌ للمتحدّث باسم الحكومة السريلانكيَّة، الوزير راجيثا سيناراتني، قال فيه: "لا يمكنني أن أتخيَّل كيف استطاعت جماعة محليَّة تنفيذ مثل هذه الهجمات بدون دعمٍ دوليّ".
وهو ما يفسّر الدَّعم والتدريب الذي تلقَّاه "زهران" والمجموعة المرافقة له؛ لتمكينهم من تنفيذ هذه التفجيرات المتزامنة دون وقوع أيَّة أخطاءٍ. تلك المجموعة التي نفذت تفجيرات سريلانكا كانت نموذجًا عمليًا لـ "خلايا التماسيح" التي تحدَّث عنها "أبو طاهر الطاجيكي" في رسائله لقادته في التنظيم الإرهابيّ. حيث تلقت تدريبًا مكثفًا داخل سريلانكا ــ الدولة المستهدفة ــ على يد أحد عناصر "داعش" بتكليفٍ من قيادات التنظيم.
كما أثبتت تلك المجموعة الموالية لتنظيم "داعش" الإرهابي الروابط المتداخلة والمتشابكة بين الإرهابيّين والعناصر الإجراميَّة؛ حيث لفَتَ حلمي أحمد، نائب رئيس مجلس مسلمي سريلانكا، إلى استخدام "زهران" لمهربين يملكون زوارق للتنقل بين سريلانكا وجنوب الهند ذهابًا وإيابًا، بطرقٍ غير قانونيَّةٍ؛ بهدف إخفاء حقيقة تحركاته منعًا لتعطيل الخطط الموضوعة للهجمات الإرهابيَّة، وهو ما يبرز الفارق بين عمليّات "الذّئاب المنفردة" وتلك الخلايا.
وهنا تبرز خطورة تلك الخلايا؛ لقدرتها على التحرُّك ومعرفتها الجيّدة بتفاصيل الأماكن المقرَّر ضربها، وفق الخطَّة الموضوعة، ومع عدد الضَّحايا المسجَّل رسميًّا، يتزايد الإدراك بمدى خطورتها وقدرتها على النفاذ والحصول على المعدّات، والأسلحة والمتفجّرات اللّازمة للتنفيذ من الدَّاخل بعيدًا عن أعين أجهزة الأمن.
وتقودنا هذه المعلومات السّابق ذكرها، والتفجيرات التي أعقبتها إلى نقطةٍ في غاية الأهميَّة ألا وهي الشبكة العالميَّة التي نسجها تنظيم "داعش" خلال فترة سيطرته في العراق وسوريا وسعيه لاستغلال خلاياه في دول العالم لبعث رسالةٍ مفادها "ما زلت حاضرًا على الساحة الدوليَّة وأستطيع النفاذ إلى داخل الدّول"، تلك الشَّبكة التي لا تتوافر معلومات مؤكدة عن انهيارها مع سقوط التنظيم في العراق وسوريا، ممَّا يعني إمكانيَّة وقوع أيّ تفجيرٍ فتاكٍ في أيَّة لحظةٍ وفي أيّ مكان ومن أشخاصٍ غير مُشتبهٍ فيهم.