هل علم الكلام مذموما؟.. «المفتي السابق» يجيب

الدكتور علي جمعة
الدكتور علي جمعة

أوضح الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية السابق؛ أن "علم الكلام، وعلم أصول الدين، وعلم التوحيد والصفات" ثلاثة أسماء مترادفة لمسمى واحد، وقد أطال سعد الدين التفتازاني في بيان أسباب تسمية هذا العلم، باسم: علم الكلام، فقال: "لأن عنوان مباحثه كان قولهم: الكلام في كذا وكذا؛ ولأن مسألة الكلام كان أشهر مباحثه وأكثرها نزاعًا وجدالاً، حتى إن بعض المتغلبة قتل كثيرًا من أهل الحق لعدم قولهم بخلق القرآن"(شرح العقائد النسفية)، وقالوا غير ذلك. وسُمِّي بعلم التوحيد؛ لأن مبحث الوحدانية أشهر مباحثه. وسمي بعلم أصول الدين؛ لابتناء الدين عليه.
وأشار إلى أنه علم عظيم شأنه، جليل قدره، يعالج أهم قضايا الإنسان على هذه الأرض، مثل: قضية الألوهية، وقضية الرسالة، وقضية الجزاء في اليوم الآخر، وغير ذلك.

ما هو علم الكلام :
علم الكلام هو علم إقامة الأدلة على صحة العقائد الإيمانية، وهو بهذا المعنى لا ذم فيه البتة، بل كان أمرا امتلأ به كتاب ربنا، وسنة نبينا ﷺ، فقد عرف علماء الكلام ذلك العلم بأنه : علم يُقْتَدر به على إثبات العقائد الدينية مُكْتَسَب من أدلتها اليقينية.(تحفة المريد على جوهرة التوحيد)

نشأة علم الكلام :
إن سبب نشأة علم الكلام هو الرد على المبتدعة الذي أكثروا من الجدال مع علماء المسلمين وأوردوا شُبها على ما قرره الأوائل، وخلطوا تلك الشُّبه بكثير من القواعد الفلسفية، فاحتاج العلماء من أهل السنة إلى مقاومتهم ومجادلتهم ومناظرتهم حتى لا ‏يلبسوا على الضعفاء ‏أمر دينهم، وحتى لا يُدْخِلُوا في الدين ما ليس منه، ولو ترك العلماء هؤلاء الزنادقة وما يصنعون؛ لاستولوا على كثير من عقول الضعفاء ‏وعوام المسلمين والقاصرين من فقهائهم وعلمائهم، فأضلوهم ‏وغَـيَّروا ما عندهم من الاعتقادات الصحيحة، وقبل تصدي هؤلاء العلماء لهم لم يكن أحد يقاومهم، وكيف يقاومهم وهو لا يفهم كلامهم لعدم اشتغاله به؟ لأنه لا يرد عليه إلا من يفهمه، وسكوتهم هذا أدى إلى نشر كلام هؤلاء الزنادقة حتى اعتقده بعض الجاهلون، فكان لِزَامًا على علماء المسلمين أن يقوموا بالرد على هؤلاء من خلال تعلمهم هذا العلم ونبوغهم فيه، لأن إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم وإلزامهم الحق، وبالفعل ردوا عليهم وأبطلوا شبههم، وكانت طريقتهم في الرد هي إثبات العقائد الإسلامية والاستدلال عليها بما هو من جنس حُجَجِ القرآن، من الكلمات المؤثرة في القلوب، المقنعة للنفوس، المورثة لثلج الصدور وطمأنينة القلوب من الأدلة الجلِيَّة الظاهرة.

علم الكلام المذموم:
إذا تقرر ما ذُكِرَ من فضل هذا العلم، لما له من دور كبير في رد شبه الطاعنين، فلم نهى علماء السلف عن الاشتغال به؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال نذكر أولا بعضًا من النصوص التي ورد فيها نهي السلف عن الاشتغال بعلم الكلام:
قال الغزالي: "فإن قلت: تعلم الجدل والكلام مذموم كتعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه، فاعلم أن للناس في هذا غلوا وإسرافا في أطراف، فمن قائل: إنه بدعة أو حرام، وأن العبد إن لقي الله عزَّ وجل بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام، ومن قائل: إنه واجب وفرض إما على الكفاية أو على الأعيان، وأنه أفضل الأعمال وأعلى القربات، فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله تعالى.
وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف... واحتجوا بأن ذلك لو كان من الدين لكان ذلك أهم ما يأمر به رسول الله ﷺ ويعلم طريقه ويثني عليه وعلى أربابه.(إحياء علوم الدين) ومنها ما روي عن أبي يوسف أنه قال: «من طلب الدين بالكلام تزندق».(إحياء علوم الدين)

* حقيقة ما ورد من نهي عن الاشتغال بعلم الكلام:
إن نهي العلماء في هذه النصوص الواردة عنهم ليس على إطلاقه، ولكنه مُنْصَبٌّ على مَنْ استخدم علم الكلام على طريقة الفلاسفة، وعلى طريقة أهل الأهواء والبدع الذين غَلَّبوا جانب العقل، وتركوا الكتاب والسنة، وجعلوا معولهم عقولهم، وأخذوا بتسوية الكتاب والسنة عليها، والكلام على طريقة المتنطعين والمتغلغلين في التقسيمات والتدقيقات التي لا يفهمها إلا قِلَّة قليلة من الناس المتشدقين بتكثير الأسئلة والأجوبة الدقيقة مما أحدثه المتكلمون من تفسير وسؤال وتوجيه وإشكال، ثم الاشتغال بِحَلِّه، ومن إثارة اللوازم البعيدة والإكثار من إيراد الشبه الواردة على عقائد أهل السنة مما لم يكن يعرف شيء منه في العصر الأول، بل كانوا يُشَدِّدون النَّكير على مَن يفتح باب الجدل والمماراة، ولذلك قال النبي ﷺ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» أي: المتعمقون في البحث والاستقصاء؛ وذلك لاشتمال هذا النوع من الكلام(يقصد الغزالي بهذا الكلام: مَنْ استخدم علم الكلام على طريقة الفلاسفة، وعلى طريقة أهل الأهواء والبدع الذين غَلَّبوا جانب العقل، وتركوا الكتاب والسنة، وجعلوا معولهم عقولهم.) –كما قال الغزالي- على كثير من الخبط والتضليل، وعدم وفائه بما هو المقصود منه من كشف الحقائق وعمارة القلوب باليقين، بل إنه مورث –بالعكس من ذلك- زعزعة في العقيدة ووهنا في التصميم.
فهذا هو المقصود بعلم الكلام الذي ذمه السلف، ونهوا عن الاشتغال به، وكأن علم الكلام عندهم منصرفا إلى هذا النوع، ومن أجل ذلك أطلقوا ذمه والنهي عنه ولم يُفَصِّلوا، ولا يزال هذا الاسم منصرفا إلى هذا النوع المذموم، بحيث لا يتبادر إلى الذهن عند إطلاقه إلا هذا النوع، وإن كانت التعريفات التي صاغها العلماء لعلم الكلام أعم منه (أي: المذموم) وشاملة للنوع المحمود منه.
قال سعد الدين التفتازني: ما نُقِل عن بعض السلف من الطعن فيه والمنع عنه (أي: علم الكلام) فإنما هو للمتعصب في الدين، والقاصر عن تحصيل اليقين، والقاصد إفساد عقائد المسلمين، والخائض فيما لا يفتقر إليه من غوامض المتفلسفين، وإلا فكيف يتصور المنع عما هو من أصل الواجبات وأساس المشروعات.

تم نسخ الرابط