التليفزيون الإسباني يعرض فيلم وثائقى عن «إرث الخلافة» في داعش .. ومرصد الأزهر يرد
سعيًا لتفكيك أيديولوجيّة التنظيمات المتطرفة، والتداعيات المترتبة على وجودها وعملياتها الإرهابيّة؛ للوقوف على سبل مواجهتها والحدّ من نتائجها السلبية، تابع مرصد الأزهر لمكافحة التطرف الفيلم الوثائقيّ الذي نشره تلفزيون "أر تي في" الإسباني ببرنامج "ملفات تلفزيونية"Documentos TV حول تداعيات سقوط تنظيم "داعش" الإرهابيّ في سوريا والعراق، تحت عنوان "إرث الخلافة"، حيث حلّل الفيلم تداعيات سقوط التنظيم الإرهابيّ والآثار المترتبة على ذلك، وما خلّفه من ملفات تمثل قنابل موقوتة، وذلك خلال جولة فريق العمل في السجون والمعسكرات التي يحتجز فيها عناصر "داعش" وعائلاتهم، ممن يقعون في طَيّ النِّسيان القانونيّ.
وتجدر الإشارة إلى أن مرصد الأزهر قد أصدر العديد من الكتب والدراسات والتقارير حول قضية العائدين من "داعش" والنساء في صفوف الجماعات المتطرفة واستقطاب التنظيم الإرهابيّ للأطفال وطبيعة عملهم وتنشئتهم في صفوفه؛ بهدف كشف زيّف هذا التنظيم الإرهابيّ وسواه من الجماعات المارقة والتنظيمات الإرهابيّة. الأمر الذي دفع المرصد لمتابعة كل ما يصدر من مواد إعلاميّة وتقارير وأخبار حول هذه القضايا. ومن بين هذه المواد الإعلاميّة هذا الفيلم الوثائقيّ؛ بغية الاطلاع على أحدث ما وصلت إليه أوضاع تنظيم "داعش" الإرهابي وعناصره، والموقف الذي تعتزم الدول اتخاذه حيالهم.
وتضمن الفيلم الوثائقيّ العديد من اللقاءات المهمة مع عناصر "داعش" من النساء والرجال، وكذلك ضحاياه في سوريا والعراق، كما سلّط الضوء على الأطفال ومسألة إعادة تأهيلهم. إلى جانب عرض مطالبات أكراد سوريا للمسؤولين عن عملية الاحتجاز لإعادة المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم أو المساعدة في محاكمتهم هناك.
وخلال تلك اللقاءات تم الكشف عن الكثير من جوانب عملية الاستقطاب التي مارسها التنظيم الإرهابيّ لجذب عناصر جدّد لصفوفه، حيث أكّد المقاتلون المنضمون لـ "داعش" أنهم قد غُرّر بهم، حيث كانوا في سن مبكرة، وقد أخذهم الحماس والشعارات الزائفة للتنظيم الإرهابيّ، كمساعدة المسلمين في سوريا والعراق، وغير ذلك من الدعايا المضلّلة، التي أسهمت في تسريع سفرهم إلى مناطق النزاع. وهنا يؤكد مرصد الأزهر على أن الدعايا الزائفة للتنظيم لعبت دورًا محوريًا في استقطاب الكثير من العناصر، كما أن العزف على وتر العاطفة والجانب الحماسي في كثير من الأحيان كانا ركيزة اعتمد التنظيم الإرهابيّ عليها في نشر ضلالاته.
لذا يشدّد المرصد على ضرورة مواصلة نشر شهادات العائدين من "داعش" إعلاميًّا؛ بهدف تحذير الشباب من الوقوع في نفس مصيرهم وبيان ضلال التنظيم الإرهابيّ وزيف دعواه المتطرفة. كما يوعز المرصد إلى تخصيص مراكز نفسيّة وطبيّة لمعالجة الآثار النفسيّة والأسريّة والاجتماعيّة التي يعاني منها العائدون من "داعش"، حيث إنَّهم -لا شك- يعانون من أزمات نفسيّة واضطرابات خطيرة، واعتبار ذلك أحد الوسائل العمليّة لحل هذه المشكلة المعقدة وتقليل حدّة تبعاتها.
وخلال زيارة البرنامج للمخيم الذي تقبع فيه مئات السيدات ممن كُنّ "سبايا" لعناصر "داعش" في العراق في إقليم كردستان، واللاتي يتلقين حاليًا جلسات مع متخصصين نفسيين وصحيين في محاولة لإعادة تأهيلهن نفسيًّا وصحيًّا بعد حالة الهلع والخوف التي عشن فيها، التقى البرنامج بالدكتورة "نغم نوزت"، التي تساعد الإيزيديات ومن وقعن مثلهن في شباك التنظيم الإرهابيّ كسبايا وجوارٍ، وقد تحدثت بعضهن عن تجاربهن المروعة. وأوضحن أن العنف الذي تعرضْن له ترك أثرًا سيئًا في نفوسهن، وأشرْن إلى أنه كان يتم تبادلهن بالمال، كما كانت أغلبهن في سن صغيرة (في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من العمر).
ويؤكد المرصد على أن هذه السلوكيات تبرّز خسّة التنظيم الإرهابيّ في الحطّ من شأن المرأة وتهميشها، فضلًا عن بيان ازدواجيته الواضحة في المعايير بين ما كان يروجه وما نفذه فعلًا من انتهاك وإجرام حيث عمل التنظيم الإرهابيّ على الترويج لحماية المرأة وصونها وأنها المربية لما يسميهم "أشبال الخلافة"، ولكن سرعان ما تبدّد هذا مع قدومهن إلى معاقل التنظيم وما لاقينه من ويلات، بل وصل به الأمر عند فقدان الكثير من عناصره إلى إشراك المرأة في تنفيذ عمليات التنظيم الإرهابيّة.
أما الجرائم الدوليّة التي ارتكبها التنظيم الإرهابيّ، فقد تم تحديد مواقع لعشرات المقابر الجماعيّة في الأراضي الإيزيدية المحرّرة.
ويعمل فريق تحقيق تابع للأمم المتحدة لتعزيز العدالة فيما يخصّ جرائم "داعش" على إيجاد أدلة حول عمليات الإبادة الجماعيّة التي نفذها التنظيم الإرهابيّ، والانتهاكات الحقوقيّة التي مارسها ضد المدنيين من قتل وتهجير، وغير ذلك من الانتهاكات الوحشيّة التي تُعد جرائم دوليّة تستوجب العقاب الصارم. بالإضافة إلى الانتهاكات بحق المسيحيين وهجمات التنظيم الغاشمة ضدهم، الأمر الذي حملهم على البحث عن ملجأ لهم في "أربيل"، عاصمة كردستان العراق، وذلك بعد فقدان منازلهم وأعمالهم في المدن التي نشأوا بها.
وفي هذا الشأن، يشير المرصد إلى العمليات الإجراميّة الوحشيّة التي كان ينفذها التنظيم الإرهابيّ بحق المدنيين في معاقله الرئيسيّة في سوريا والعراق، فضلًا عن معاداته للإرث الإنسانيّ والحضاريّ، فقد اعتدى التنظيم على الإنسان والشجر والحجر، وطال أذاه الجميع دونما استثناء، بالإضافة إلى تشويه فكر آلاف البشر وإخراجهم عن إنسانيتهم إلى وحشية كارثيّة وعدوان مقيت.
ومن القضايا التي سلّط الفيلم الوثائقيّ الضوء عليها "قضية الأطفال" حيث أشار أحد الحقوقيين في الفيلم إلى هؤلاء الأطفال الذين فقدوا الكثير من حقوقهم في ظل البقاء في معسكرات الاحتجاز تلك، كالحق في الصحة والتعليم والحياة الكريمة، وهذا يشكل خطرا مع إمكانية تحولهم إلى الجيش المستقبليّ لداعش في التطرّف والاستقطاب. ولا شكّ أن ملف الأطفال يشكل تحديًا كبيرًا في عملية تأهيلهم وإعادتهم لحياتهم الطبيعية، ومع مرور الوقت يزداد الأمر سوءا. كما أنهم قد أجبروا على تلقي العديد من التدريبات العسكريّة بما لا يستبعد معه أنهم قد يشكلون تهديداً مستقبلياً. وفي هذا الصدد أوضحت "كارولا جارسيا كالبو"، المتخصصة في التطرّف العنيف والإرهاب العالميّ في معهد "إلكانو" الإسبانيّ، أنه لا بُد من التعامل مع ملف الأطفال ومعالجته بشكل سليم، وتكريس الجهود لإعادة تأهيلهم وإعادة دمجهم مجتمعيًا.
ويرى مرصد الأزهر أن عودة أطفال "داعش" إلى أوطانهم مرة أخرى تمثل إشكاليّة ذات وجهين، الوجه الأول أنهم بريئون من العنف، ولكن البيئة المحيطة هي التي دفعتهم ليصبحوا نواة للتطرّف، والوجه الثاني أنهم ربما يمثلون خطورة على مجتمعاتهم الأصلية، حال عدم تعامل الحكومات معهم بالطريقة المناسبة. لذا ينبه المرصد إلى أن الطرح الإعلاميّ لهذه القضية وتوضيح إشكاليتها، يسهم بشكل كبير في إنماء الوعي المجتمعيّ بمخاطر التطرّف وما آل إليه معتنقوه من تشريد ودمار. وقد نوّه المرصد في دراسات عدّة حول العائدين من "داعش" إلى أن المعالجة الأمنيّة والقانونيّة القضائيّة لا تزال هي المسيطرة على الدول الأوربيّة في تعاطيها مع قضية العائدين إلى أوطانهم، كما أن السلطات الأوروبيّة في الوقت ذاته تخشى من تحول السجناء والمعتقلين إلى نقاط استقطاب فكريّ للسجناء الآخرين؛ لذا يجب عقد مراجعات فكريّة وفقهيّة للعائدين؛ بهدف تصحيح مسارهم الفكريّ وتأهيلهم نفسيًّا.
كما سلّط الفيلم الضوء على عدد المقاتلين في صفوف "داعش" فقد أورد أن حوالي 40 ألف عنصر من أكثر من 100 دولة قد انتقلوا لمعاقل "داعش" في سوريا والعراق للقتال في صفوفه. وبالنسبة لجنسياتهم فقد كان أكثرهم يحملون الجنسية الفرنسية، وأن حوالي 30% منهم قد غادر مناطق النزاع بعد سقوط "داعش" والبقية ما بين قتيل وسجين. وقد التحق بداعش 248 عنصرًا من المقيمين في إسبانيا، منهم 48 شخصًا يحملون الجنسية الإسبانيّة، والبقية من المقيمين فقط بإسبانيا، ومن بينهم 30 سيدة، 12 منهن إسبانيات الجنسية. ومن بين هؤلاء تبرز "يولاندا مارتينيث" و"لونا فرنانديث" وهما إسبانيتان انتقلتا مع أزواجهن إلى سوريا للانضمام إلى تنظيم "داعش" الإرهابيّ، وهما الآن محتجزتان مع أطفالهما تحت سيطرة الميليشيات الكردية في شمال شرق سوريا.
وفي السياق ذاته أوضحت الإسبانيات أنهن قد غُرّر بهن وخدعن من أزواجهن للسفر ولم يكنَّ على علم بأنهن سينضممن إلى تنظيم "داعش"، وقد قيل لهن إنهن سيعشن في أجواء تمكنهن من ممارسة تعاليم الإسلام على أكمل وجه، وسرعان ما انجلت تلك الصورة بعد الوصول ومطالعة الأنشطة الإجراميّة التي ينفذها التنظيم الإرهابيّ.
ولفت الفيلم الوثائقي إلى أن إعادة التأهيل ومكافحة التطرّف -في كثير من الأحيان- غير مجدية، وأن التنظيم الإرهابيّ رغم فقده لمناطق تمركزه إلا أن أفكاره المتطرفة ما زالت مترسخة في عقول عناصره. وهو ما أوضحته "كارولا جارسيا كالبو"، بمعهد "إلكانو" الإسباني، عند الحديث عن إشكالية عودة تلك العناصر، حيث قالت إن هؤلاء الأشخاص صدرت بحقهم أوامر دوليّة بالضبط، لذا فإن أي بلد به سلطة قضائيّة مختصة، يمكنها اعتقالهم وتقديمهم للعدالة. ومن خلال الحديث مع بعض النساء الداعشيات والتركيز في كلماتهن لم يلاحظ تغير واضح في موقفهن، بمعنى أنهن –في الغالب- ما زلن يعتنقن الأفكار ذاتها.
لا شك أن النقاش حول إعادتهن لا يزال مفتوحًا وسط خلافات بين أجهزة الأمن وحقوق الإنسان والعدالة، فلا يوجد أحد يريد المجازفة بإعادتهن، حيث سيطلق سراحهن من السجن بعد سنوات قليلة، وربما يعدن ومن في مثل ظروفهن إلى التطرف، بما يشكل قنبلة موقوتة تهدّد الأمن القوميّ لبلادهن.
إن "إرث الخلافة" هو فيلم وثائقيّ حول ما يجب فعله مع متطرفي "داعش" الأجانب وعائلاتهم. كما أنه ينصت لضحايا الإرهاب والجماعات المتطرفة، ويوضح أن إرث التنظيم الإرهابيّ ما يزال على قيد الحياة ولم ينته بعد.
ومن خلال ما سبق، يرى مرصد الأزهر لمكافحة التطرف ضرورة تعامل الدول مع ملف العائدين من "داعش" والعناصر المحتجزة في سوريا والعراق بجدية، وذلك من خلال وضع إستراتيجية واضحة وفاعلة بهذا الصدّد. كما يحذر من تكوّن بؤر إرهابيّة محتملة في تلك المناطق حال إهمال هذا الملف الخطير خاصة مع سعي قادة التنظيم الحاليين لتهريب عناصره المحتجزين في تلك المعسكرات لإعادة بث الحياة في التنظيم الإرهابيّ المنهك بعد فقدانه لمواقعه وعناصره.