قصة ”لا يفتي ومالك في المدينة”

دار الإفتاء
دار الإفتاء

أطلقت على الإمام مالك رضي الله عنه مقولة "لا يُفتى ومالك في المدينة"، ويمكن أن تعرف قصتها من خلال السطور القليلة المقبلة.

ولكننا سمعنا أن سبب إطلاقها أن امرأة ماتت، فغسلتها امرأة أخرى، فطعنت في عفاف الميتة، فالتصقت يدها بها، فاحتار الناس في الحكم؛ هل يقطعون يد المرأة القاذفة، أو جسد المرأة الميتة؟ حتى قال مالك: "اجلدوها حد القذف"، بعد أن علم بقصتها، ففعلوا، فانفصلت اليد، فقيلت في حقه هذه المقولة من ساعتها. فما مدى صحة هذا الكلام؟

وقد رويت لهذه المقولة قصة؛ قال الإمام الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (حُكِيَ أن امرأةً بالمدينة في زمن مالكٍ غَسَّلَت امرأة فالتصقت يدها على فرجها، فتحير الناس في أمرها هل تقطع يد الغاسلة أو فرج الميتة؟ فاستفتي مالك في ذلك فقال: سلوها ما قالت لما وضعت يدها عليها؟ فسألوها فقالت: قلت: طالما عصى هذا الفرج ربه، فقال مالك: هذا قذف، اجلدوها ثمانين تتخلص يدها، فجلدوها ذلك فخلصت يدها. فمن ثم قيل: لا يفتى ومالك بالمدينة] اهـ. ونقلها غيره؛ كالإمام الدميري في "النجم الوهاج" (3/ 97-98، ط. المنهاج)، والإمام السفيري في "مجالسه على البخاري" (1/ 150، ط. دار الكتب العلمية).

وقد ذكر هذه القصة بسندها الإمام ابن حجر العسقلاني الشافعي، وذلك في معرض تعريفه بيعقوب بن إسحاق، في "لسان الميزان" (8/ 525، ط. دار البشائر الإسلامية) فقال: [يعقوب بن إسحاق: كذاب، وقد وجدت له حكاية تشبه أن تكون من وضعه، قرأت بخط الحافظ قطب الدين الحلبي ما نصه: وبسندي إلى عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سعيد وجدت بخط يد عمي بكر بن محمد بن سعيد: حدثنا يعقوب بن إسحاق بن حجر العسقلاني إملاء حدثنا إبراهيم بن عقبة حدثني المسيب بن عبد الكريم الخثعمي حدثتني أمة العزيز امرأة أيوب بن صالح صاحب مالك قالت: غسلت امرأة بالمدينة فضربت امرأة بيدها علي عجيزتها فقالت: ما علمتك إلا زانية، أو مأبونة فالتزقت يدها بعجيزتها، فأخبرنا مالكًا فقال: هذه المرأة تطلب حدها، فاجتمع الناس، فأمر بها مالك أن تضرب الحد، فضربت تسعةً وسبعين سوطًا، ولم تنزع اليد، فلما ضربت تمام الثمانين انتزعت اليد، وصلي على المرأة، ودفنت] اهـ بتصرف.

وهذه القصة موضوعة مكذوبة؛ وقد اجتمع بها عدة علل، وذلك كما يلي:

العلة الأولى: وهي في يعقوب بن إسحاق، فقد حكم عليه الإمام ابن حجر بالكذب كما ذكر في نص "لسان الميزان" الذي سبق، وقال قبل أن يذكر القصة: "وقد وجدت له حكاية تشبه أن تكون من وضعه"، وقال عنه الإمام الذهبي أيضًا في "ميزان الاعتدال" (4/ 449، ط. دار المعرفة): [يعقوب بن إسحاق العسقلاني: كذاب] اهـ.

العلة الثانية: هي في المسيب بن عبد الكريم؛ متهم بالوضع؛ ذكره الإمام ابن عَرَّاق في "تنزيه الشريعة" (1/ 117، ط. دار الكتب العلمية) -في أسماء الوضاعين والكذابين ومن كان يسرق الأحاديث ويقلب الأخبار ومن اتهم بالكذب والوضع من رواة الأخبار- وقال: [اتهمه الدارقطنى بالوضع] اهـ.

العلة الثالثة: وهي في إبراهيم بن عقبة؛ قال عنه أبو حاتم: مجهول. ينظر: "لسان الميزان" (1/ 82).

ومما يدل على وضع هذه القصة أيضًا أن الخطيب الشربيني عند ذكره لهذه القصة صدرها بقوله غريبة، ثم أشار إلى تضعيفها بقوله "حكي"، وما يؤكد غرابة هذه القصة أيضًا أنه لم ترد في كتب المالكية المعتمدة؛ فمن كل هذا يتبين أن هذه القصة موضوعة على الإمام مالك، إلا أن الحكم بوضع هذه القصة، لا يلزم منه الحكم بعدم صحة ما اشتهر من أنه لا يفتى ومالك في المدينة.

فقد أخرج الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (10/ 436، ط. دار الكتب العلمية) عن ابن وهب أنه قال: حججت سنة ثمان وأربعين ومائة. وصائح يصيح: لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس، وعبد العزيز بن أبي سلمة.

وقال القاضي عياض المالكي في "ترتيب المدارك" (1/ 78، ط. مطبعة فضالة -المحمدية- المغرب): [قال حماد بن زيد: دخلت المدينة ومناديًا نادي لا يفتي الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحدث إلا مالك بن أنس] اهـ.

وقال الشيخ الصاوي في "حاشيته على الشرح الصغير" (1/ 17، ط. دار المعارف): [وهو عالم المدينة. لم تشد الرحال لعالم بها كما شدت له حتى يحمل عليه. وناهيك ما اشتهر: لا يفتى ومالك بالمدينة] اهـ.

وبناءً على ما سبق: فإن مقولة "لا يُفتى ومالك في المدينة" مقولة صحيحة، أما القصة التي تُذْكَر في سبب هذه المقولة فهي قصة موضوعة على الإمام مالك رضي الله عنه.

تم نسخ الرابط