منها تجديد الخطاب الديني.. معلومات لا تعرفها عن «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي
في إطار مشروعه الثقافي حكاية كتاب، استعرض مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية التابع للأزهر الشريف اليوم، كتاب «إحياء علوم الدين» لحجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي -رحمه الله- (450 هـ /1058م - 505 هـ / 1111م).
وقال « مركز الأزهر» عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي « فيسبوك» إن «الإحياء» هو أحد أعرق كتب المكتبة الإسلامية على اتساعها وثرائها، وسَرْدُ حكايتِه في هذه النَّشرة اليسيرة أمر شاقّ يضعنا أمام تَحَدٍّ كبير، وإن كنا لن نفي بكل ما يخصُّ الكتاب وكاتبه؛ فهذا لن يمنعنا من محاولة جادّة للوقوف مع محطات حكايته، والاستفادة من دروسها،ويكفينا شرف المحاولة.
المؤلف في سطور:
وأضاف الأزهر العالمي للفتوى أن الإمام الغزالي هو الإمام الفذُّ، المُجَدِّدُ، المُتَكَلِّمُ، حُجَّةُ الإسلام، زين الدين، أبو حامد، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزَالي -بالتَّخفيف- نسبة إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالَ لَهَا: غَزَالَةُ، مُجدِّد عصره، وإمام زمانه، وأحد أشهر علماء المسلمين.
وأشار إلى أنه ولد في طوس إحدى مدن «إيران» الأثرية، وعاش بها في صدر حياته، وبدأ فيها طلب العلم.
وتابع: كان والده يغزل الصّوف ويبيعه في دكانه بطوس، فلما احتضر أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له صُوفيّ صالح، وترك لهما شيئًا من المال، فظلَّ الرجل يُعَلِّمُهما حتى فَنِيَ ما خَلَّفَه لهما أبوهما، وتَعَذَّرَ عليهما القُوتُ، فدَفَعَهُما إلى المدرسة كأنهما طالبا علم؛ لتحصيل القوت لا لتحصيل العلم، طلبًا لما كانت تفرضه المدارس لطلابها من الرعاية والقوت آنذاك.
وواصل: ظلَّ أبو حامد الغزالي يطلب العلم بطوس على يد كبار علمائها؛ حتى فاق أقرانه، ثمَّ ارتحل منها إلى جُرجان، ثم إلى نيسابور؛ ليلازم إمام الحرمين أبا المعالي الجويني -رحمه الله-، ولينهل من علومه، ثم رحل إلى بغداد، وتولى بها التَّدريس في مدرستها النِّظَامية في عهد الدولة العباسية بطلب من الوزير السلجوقي (نِظَام المُلْك)، وكان في تلك الفترة قد اشتُهر شهرةً واسعةً، وذاع صِيتُه في الآفاق؛ حتى صار مَقْصدًا لطلاب العلم من جميع البلدان؛ لما رُزِقَه -رحمه الله- من حظٍّ وافرٍ في حُسْن التَّصانيف وجودتها، مع تبحُّر في غيرِ ما نَوْعٍ منها بدرايةٍ، وإتقانٍ، وتَمَكُّنٍ بالغٍ مِن دقائق ما يُتفنَّن فيه، مع ما خَصَّه الله به من الكرامة، وحُسن السّيرة، والاستقامة، والزّهد، والعزوف عن الدّنيا، والإقبال على الآخرة، والانكباب على التَّصانيف البديعة الغزيرة في شتى الفنون، حتى قيل: إن تصانيفه لو وُزِّعت على أيام عُمُره لأصاب كلَّ يومٍ كتابٌ!
وأردف: عاش الإمام الغزالي حياته مؤدِّيًا حقَّ دينِه ودعوته، ومُدافعًا عن هُوية أمَّته، وتاركًا تراثًا علميًّا ومعرفيًّا ضخمًا، وتلاميذ ومُرِيدين، وقد تميزت كتاباته بحُسْن العرض، ودقَّة العِبارة، وبراعة الاستدلال، وقوة الحُجَّة، وصِدق الحِسّ.
وأكمل: قد انعزل الإمام مدةً عن الخلائق ثم عاد إلى التَّدريس، وظلَّ على سِيرته من العلم، والزُّهد في الدُّنيا؛ حتى وافاه الأجل رحمه الله ورضي عنه.
ونوه مركز الأزهر إلي أن للإمام سيرة ثريَّة مضيئة سَجَّل جُلَّ أحداثها في كتابه: «المُنقِذ من الضلال»، وروى أبو الفرج بن الجوزي في وفاته عن أبي الفتوح أحمد الغزالي -أخي الإمام أبي حامد الغزالي- قال: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ الاثْنَيْنِ وَقْتَ الصُّبْحِ تَوَضَّأَ أَخِي أَبُو حَامِدٍ، وَصَلَّى، وَقَالَ: "عَلَيَّ بِالْكَفَنِ"، فَأَخَذَهُ وَقَبَّلَهُ وَتَرَكَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: "سَمْعًا وَطَاعَةً للدُّخُول عَلَى الْمَلِكِ" ثُمَّ مَدَّ رِجْلَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَمَاتَ قَبْلَ الإِسْفَارِ» [الثَّبات عند الممات (1/178)].
سبب تأليف الكتاب:
وألمح أن الإمام الغزالي رأى أنَّ كثيرًا من المشتغلين بالعلم في زمانه قد اتجهوا إلى اكتساب الوظائف به، واشتغلوا بصورته عن تحقيقه، ومنهم من اكتفى بظواهره، وغفل عن أسراره ومقاصده؛ فأراد الإمام أن يُوقِظ النُّفوس، ويُحيي روح العُلوم، ويكشف اللطائف والدَّقائق؛ فشمَّر عن ساعد الجدّ.. وكان هذا الكتاب العظيم.
ويُحدّثنا الإمام عن هذا فيقول: «فَأمَّا عِلْمُ طَريقِ الآخِرَة وما دَرَجَ عَلَيهِ السَّلفُ الصَّالِحُ ممَّا سَمَّاه اللهُ سُبحَانَه في كِتَابِه فِقْهًا وحِكْمَةً وعِلْمًا وضياء ونورًا وهداية ورشدًا فقد أصبح من بين الخلق مطويًا وصار نسيًا منسيًّا، ولما كان هذا ثلمًا في الدين ملمًا، وخطبًا مُدلهمًّا، رأيت الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مهمًّا؛ إحياءً لعلوم الدين، وكشفًا عن مناهج الأئمة المتقدمين، وإيضاحًا لمباهي العلوم النَّافعة عند التَّبيين والسَّلف الصالحين».
محتوى الكتاب:
جاء الإسلام لتهذيب النَّفس، وتزكيتها، وإصلاح علاقاتها على جميع المُستويات: بالله، وبالنَّفس، وبالخَلْق.
واهتم علماء الإسلام ببيان وسائل هذه التَّزكية، وعوامل تقويتها، وموانعها، وحقيقتها، ودقائقها، وقدَّمُوا في ذلك جُهودًا غزيرة، إلَّا أنَّ كتاب إحياء علوم الدِّين للإمام الغزالي يُعَدُّ بمثابة دُرَّةِ التَّاجِ في هذا الباب، ومع أنّ الغزالي كَتَب عشرات المصنفات، إلَّا أن هذا الكتاب قد حاز شهرةً واسعة، وانتشر انتشارًا لم يقاربه كتابٌ آخَر مِن كُتُبِه.
ولا غَرْوَ فهو من أهم كتب المكتبة الإسلامية التي تُبَيِّن منهج الإسلام كأنه صورة مُصغَّرة للتَّعريف به في شتى جوانبه.
إضافةً إلى ما اتَّسم به من تناول أسرار العبادات كما لم يتناولها الفقهاء؛ مبينًا المعاني الرُّوحيَّة الكامنة فيها، وسُبُلَ القُرْبِ إلى الله عز وجل من خلالها، وتركيزه على الجانب التَّطبيقي الذي ينبغي أن يكون عليه المُسلم، مع بيان الإرشادات العملية المُعينة على ذلك؛ حتى قيل فيه: «من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء».
كما يُبيِّن أنَّ علوم المعاملة التي يُتَقَرَّبُ بها إلى الله قِسْمان: ظاهرة وباطنة، والظاهرة قسمان: معاملة بين العبد وربه، ومعاملة بين العبد والخلق، والباطنة قسمان: ما يجب تخلية القلب عنه من الصفات المذمومة، وما يجب تحلية القلب به من الصفات المحمودة.
وقد بنى الغزالي كتابه الإحياء على هذه الأقسام الأربعة، فقال: «أسسته على أربعة أرباع: ربع العبادات، وربع العادات، وربع المهلكات، وربع المنجيات».
وكان يَشْرَع في سرد الأبواب التي تضمنها الإحياء؛ مُصّدِّرًا إياها بالآيات ثم بالأحاديث والآثار، ومحاولًا الجمع والاستقصاء لما ورد فيها من أخبار وآداب، ومبينًا حدود ما يذكر وشروطه وما يتعلق به، على غايةٍ من الحسن في الجمع والتسلسل والأسلوب.
قال -رحمه الله- بعد أن ذَكَر تقسيمه ومبناه:
فأما ربع العبادات فأذكر فيه خفايا آدابها ودقائق سننها وأسرار معانيها، و ما يضطر العالم العامل إليه؛ بل لا يكون من علماء الآخرة من لا يطلع عليه، وأكثر ذلك مما أهمل في فن الفقهيات.
وأما ربع العادات فأذكر فيه أسرار المعاملات الجارية بين الخلق، وأغوارها، ودقائق سننها، وخفايا الورع في مجاريها، وهي مما لا يستغني عنها متدين.
وأما ربع المهلكات فأذكر فيه كل خُلُق مذموم ورد القرآن بإماطته، وتزكية النفس عنه، وتطهير القلب منه، وأذكر من كل واحد من تلك الأخلاق حده، وحقيقته، ثم أذكر سببه الذي منه يتولد، ثم الآفات التي عليها تترتب، ثم العلامات التي بها تتعرف، ثم طرق المعالجة التي بها منها يتخلص، كل ذلك مقرونًا بشواهد الآيات والأخبار والآثار.
وأما ربع المنجيات فأذكر فيه كل خلق محمود، وخصلة مرغوب فيها من خصال المقربين والصديقين التي بها يتقرب العبد من رب العالمين وأذكر في كل خصلة حدها، وحقيقتها، وسببها الذي به تجتلب، وثمرتها التي منها تستفاد، وعلامتها التي بها تتعرف، وفضيلتها التي لأجلها فيها يرغب، مع ما ورد فيها من شواهد الشَّرع والعقل.
ولا نقول: إن هذه المعاني كانت غائبة عمن سبقه، بل كانت مستقرة في بواطنهم، تنطق بها أفعالهم؛ غير أنه أبرزها للسالك والمريد، وسلكها في سياق متصل فريد، وجمع شتاتها، وعبر عنها تعبيًرا بليغًا سلسًا ينفذ إلى القلوب، فجدَّد طرح ما كان كامنًا، وأحيا ما بات دارسًا، وهو الخبير بهذا الباب ذوقًا وسلوكًا وأخذًا وتعليمًا، ولذا كانت تسميته لكتابه «إحياء علوم الدين» تسمية دقيقة.
وبهذا نرى أن الكتاب يُعدُّ نموذجًا تطبيقيًّا بارزًا للتجديد في الخطاب والفكر الديني.
ورغم كلِّ المحاسن التي حوتها صفحات الكتاب؛ إلَّا أنَّه كَطبِيْعَةِ أيِّ عمل بشريٍّ؛ -مهما بُذِلَ فيه من جهودٍ- لا يصل إلى درجة الكمال؛ ولا يخلو من انتقادات ومن بين هذه الانتقادات ما طُعن عليه به من كثرة إيراد الضعيف، وبعض الموضوع من الأحاديث؛ إلا أن الإمام الغزالي كان له منهج في ذلك؛ حيث كان يروم استقصاء كل ما ورد في الباب، ويُصدِّرُه بأصحِّه، ثم يورد الأقل صحة على سبيل المتابعات والشواهد؛ لما تشتمل عليه من فوائد، كما أن أكثر إيراده في باب الترغيب والترهيب، والمعمول به عند المحدثين جواز الأخذ بالضعيف في فضائل الأعمال.
وقول الإمام الغزالي عن نفسه في قانون التأويل: «وبضاعتي في علم الحديث مزجاة» لا يُفهم منه قلة درايته بهذا الفن، أو عدمها، وإنما قاله مقارنة بتبحره في العلوم الأخرى، وبأهل الصَّنعة الحديثية.
مع أخذ في الاعتبار أن الله سبخانه قد قيض لهذا الكتاب مِن أهل العلم مَنْ كَرَّسَ جهده لخدمته؛ دراسةً لمعانيه، وتحقيقًا لمسائله، وتخريجًا لأحاديثه؛ بل إن الغزالي نفسه قد أجاب عن بعض ما ورد في الكتاب من إشكالات في رسالته المسماة «الإملاء على مشكل الإحياء» وكذلك صنع غيره من العلماء.
وقد أُخِذ عليه أيضًا إيراده بعضَ القصص التي اعتبرها مخالفوه من قبيل الخرافات، وغير ذلك من الانتقادات المتعلقة بمسائلَ في علم الكلام، تناولها العلماء بالبيان والتحليل في مواطنها.
وهذا لا يمنع أن يشيد منتقدوه بمكانته وعلمه؛ حتى اعتبره كثير منهم مجدد المائة الخامسة؛ بل نقل السيوطي اتفاق العلماء على ذلك.
وختامًا: لا يخفى على القارئ أننا لم نقصد في هذا المقال تتبع جميع ما للكتاب أو عليه؛ وإنما قصدنا إعطاء القارئ تصوُّرًا عامًّا عن الكتاب ومُؤلفه، يدعوه إلى قراءته، ويعينه على فهم الكتاب وأسلوب كاتبه.
اقتباس:
فحتم عَلَى كُلِّ ذِي حَزْمٍ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ مُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهَا فِي حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا، وَخَطَرَاتِهَا وَخُطُوَاتِهَا، فَإِنَّ كُلَّ نَفَسٍ مِنْ أَنْفَاسِ الْعُمُرِ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ، لَا عِوَضَ لَهَا، يُمْكِنُ أَنْ يُشْتَرَى بِهَا كَنْزٌ مِنَ الْكُنُوزِ لَا يَتَنَاهَى نَعِيمُهُ أبد الآباد؛ فانقباض هَذِهِ الْأَنْفَاسِ ضَائِعَةً أَوْ مَصْرُوفَةً إِلَى مَا يَجْلِبُ الْهَلَاكَ خُسْرَانٌ عَظِيمٌ هَائِلٌ لَا تَسْمَحُ به نفس عاقل.
فإذا أَصْبَحَ الْعَبْدُ وَفَرَغَ مِنْ فَرِيضَةِ الصُّبْحِ يَنْبَغِي أن يُفرِّغ قَلْبَه سَاعَةً؛ لِمُشَارَطةِ النَّفْس، كما أنَّ التَّاجِرَ عِنْدَ تَسْلِيمِ البِضَاعَةِ إلى الشَّرِيكِ العَامِل يُفَرِّغ المَجْلِسَ لمُشَارَطَتِه.
فيقول للنفس: مَا لِي بِضَاعَةٌ إِلَّا الْعُمُرُ، وَمَهْمَا فَنِيَ فَقَدْ فَنِيَ رَأْسُ الْمَالِ، وَوَقَعَ الْيَأْسُ عَنِ التِّجَارَةِ وَطَلَبِ الرِّبْحِ، وَهَذَا الْيَوْمُ الْجَدِيدُ قَدْ أَمْهَلَنِي اللَّهُ فِيهِ، وَأَنْسَأَ فِي أَجْلِي وَأَنْعَمَ عَلَيَّ بِهِ، وَلَوْ تَوَفَّانِي لَكُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ يُرْجِعَنِي إِلَى الدُّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا؛ حَتَّى أَعْمَلَ فِيهِ صَالِحًا، فَاحْسَبِي أَنَّكِ قَدْ تُوُفِّيتِن ثُمَّ قَدْ رُدِدْتِ؛ فَإِيَّاكِ ثُمَّ إِيَّاكِ أَنْ تُضَيِّعِي هَذَا الْيَوْمَ فَإِنَّ كُلَّ نَفَسٍ مِنَ الْأَنْفَاسِ جَوْهَرَةٌ لَا قِيمَةَ لها.