كان يدخن »كنت».. لماذا أمر عبد الناصر بتصنيع سيجارة «كليوباترا»؟
على مر السنوات المتعاقبة حازت سيجارة "كليوباترا" على لقب السيجارة الشعبية في مصر، بعدما حجزت مكانها في أيدي المدخنين المصريين، وحلت مكان السجائر الأجنبية.. لكن ما هي حكاية هذه السيجارة؟.. ومتى بٌني أول مصنع لها؟.. وعلى يد من؟.. وما علاقة جمال عبد الناصر بكل ذلك؟
السجائر والمسرح
عندما بدأ تاجر أجنبي يدعى ماتوسيان الأكبر عمله في تجارة السجائر في نهاية القرن الـ19، كانت تجارته رائجة لا تتوقف عند مصر لكنها تصل إلى أوروبا أيضاً، كانت المنافسة حامية وزادت وطأتها عندما تدخل القصر الملكى وأصدر قراراً بإنشاء الشركة الشرقية للدخان.
ويروي عمر طاهر في كتابه «صنايعية مصر. مشاهد من حياة بعض بناة مصر في العصر الحديث»، أن ماتوسيان لم يكتف بالدعاية في الصحف والمجلات، بل اتفق مع نجيب الريحاني على أن تقدم فرقة الريحاني موسم مسرحي في الإسكندرية لحساب الشركة، على أن تضع الشركة في علب السجائر كوبونات يستطيع من يشتريها أن يقدمها لعامل التذاكر ويحصل على تذكرة مخفضة.
كان الريحاني وقتها في أزمة مالية وكان بحاجة لمن يمول مسرحيته الجديدة، فظهر ماتوسيان وكان الاتفاق أن يقوم الريحاني بالدعاية لسجائر ماتوسيان على أن يدفع له يومياً 10 جنيهات، و5 جنيهات أخرى لبديعة مصابني إضافة لتأمين كل نفقات الفرقة والمسرح والدعاية طيلة الموسم الصيفي، ونجح الاتفاق.
كان ماتوسيان تاجراً ماهراً يسعى إلى ما هو أكثر من التواجد على الساحة، حتى بعد صدور قرارات التأميم وفرار الكثير من منافسيه، حيث استجاب للوضع حينذاك واندمج بشركته مع الشركة الشرقية للدخان التي أمُمت، لكنه حتى هذه اللحظة لم يكن يحلم أن يكون صاحب السيجارة الشعبية الأولى في مصر، بل أنها لم تكن فكرته أصلاً.
سيجارة ناصر
كان كمال قطبة، عضو غرفة صناعة السجائر في مصر شاهداً على القصة التي بدأت في شتاء عام 1961 على هامش اكتشاف أنشطة تجمع السوق المصري والسوق السوري أيام الوحدة.
أقامت مصر معرضاً في أرض المعارض بالجزيرة للصناعات التي يمكن أن تصبح مشتركة بين البلدين، وقررت غرفة صناعة السجائر أن يكون هناك جناح للتبغ المصري والسوري، ووصلت أخبار أن جمال عبد الناصر سيزور المعرض.
وصل ناصر وصافح ماتوسيان بحرارة، ثم أخذه في جولة للتعرف على جميع أنواع المعروضات، وعلى هامش الجولة وزّع ماتوسيان السجائر والسيجار على ناصر وصحبته.
كان منتج ماتوسيان الأهم وقتها سجائر «بلمونت»، فأخذها ناصر ووضعها جانباً ثم وضع يده في جيبه وأخرج علبة سجائره الخاصة «كنت»، وأشعل واحدة وسط وجوم أصحاب المعرض.
شعر ناصر بثمة حرج وأن الموقف غير مريح، فقال لهم أنه لا يغير نوع سجائره فالتغيير يؤثر سلبيا على رئتيه، وربما شعر أن مبرره لا يغطي الإحراج الذي سببه للحاضرين فقال لهم: «شوفوا كده يا جدعان، لو عملتوا سيجارة محلية زي كِنت هاكون أول وأكبر زبون عندكم»، والتقط ماتوسيان طرف الخيط وقال لناصر: "طلباتك أوامر".
في اليوم التالي طلب ماتوسيان كمال قطبة وقال له: «يا كمال إحنا وعدنا الرئيس نعمل له سيجارة زي الكِنت»، ثم طلب منه أن يشترى من السوق السوداء ثلاث خراطيش كِنت ليتم تحليلها داخل المعمل لمعرفة كيف تتكون الخلطة، وتم بالفعل تصنيع السيجارة الجديدة.
أصل الاسم
بعد ثلاثة أسابيع كان هناك اجتماع لدراسة النماذج الجاهزة من تلك السيجارة، كانت قريبة منها بالفعل وتم تصميم علبتها بحيث تكون قريبة الشبه من الكنت، بيضاء بخطوط ذهبية رفيعة، وبقي اختيار الاسم.
كانت وقتها الضجة كبيرة حول فيلم «كيلوباترا» لإليزابيث تايلور، حيث النجاح العظيم، والإنتاج الضخم الذي تكلف وقتها أكثر من 20 مليون دولار، ودعاية ضخمة في كل مكان جعلت الاسم ذا حضور قوي، ومن ثم فكر ماتوسيان أنهم لن يحتاجوا لدعاية إضافية مع رواج هذا الاسم فأطلقوا عليها «كليوباترا».
إلى ناصر
بقى أن الشخص الذي اقترح تصنيع هذه السيجارة لا بد أن يكون أول من يجربها، فتم إعداد لفة أنيقة من الورق المذهب وُضع بها أربعة خراطيش كيلوباترا مع رسالة من ماتوسيان للرئيس، حملها قطبة، وماتوسيان إلى كوبري القبة حيث يقيم الرئيس.
أكثر من شهر كان ماتوسيان ينتظر النتيجة، حتى اليوم الذي وجهت فيه الدعوة لكمال قطبة وجوزيف ماتوسيان لحضور حفل زفاف صديق لهم كان سيتزوج ابنة أحد اللواءات أصدقاء ناصر (اللواء رشاد حسن). كان من المؤكد حضور الرئيس، وكان الجميع يعرفون أن الرئيس بطبعه كمدخن سيخرج علبته من جيبه فور أن يجلس.
ذهب ماتوسيان ورفيقه إلى الفرح وجلسا قريباً من منضدة العريس، وظلا يعدان الساعات حتى وصل ناصر مع حراسته، وصافح العروسين ثم جلس إلى منضدته.
جلس ناصر إلى منضدته في حفل الزفاف وشب ماتوسيان وقطبة ليعرفا نوع العلبة التي سيخرجها ناصر من جيبه، هل مازال يدخن الكِنت أم أنه أعجب بالسيجارة الجديدة؟
أخرج ناصر علبته ووضعها أمامه، لم تكن الكِنت، ولم تكن أيضاً كيلوباترا، كانت نوعا أمريكيا آخر «إل أند إم». بعدها رحل ماتوسيان، ثم هاجر قطبة إلى كندا، ولم يعرفا حتى رحل ناصر إن كان قد أحب الكيلوباترا أما لا؟.