عاش منفيا ومات منسيا ... أيام الشهد والدموع فى حياة الرئيس الراحل محمد نجيب
لم يتخيل أن تكون هذه نهايته، لم يدر بخلده أنه سيقضى باقى عمره رهن إشارة الصغير قبل الكبير فى المجلس الذى احتمى فيه، دارت به الأحداث فاستنكر ما آل إليه على يد الأحرار، فهو الجنرال والقائد الذى تم الدفع به فى وجه الملك وحاشيته، وظن أنه سيبقى محتفظا بهيبته ومكانته ولم يتوقع أن تكون النهاية قريبة، وأن يتم الزج به بين أربعة جدران ليظل معتقلا حبيسا فى مكان لم يجد وفاء سوى من كلبه، وعلى الرغم من رحيل عبدالناصر، وتولى السادات مقاليد الحكم إلا أن الوضع لم يختلف كثيرا، ولم يفكر فى الهروب وكانت أمنيته الوحيدة أن تكون معاملته كما عامل الملك وقت إقصائه عن الحكم، إعمالا بأن الجزاء من نفس جنس العمل، إلا أن مجلس الثورة حطم حياته، وجعله يتجرع الموت فى كل لحظة داخل محبسه الذى لم يجد من يقدم له شربة ماء، حتى أنه كان يتمنى الموت مئات المرات فى كل لحظة تمر عليه، داخل محبسه، إنه الرئيس محمد نجيب، أول رئيس لمصر بعد التحول من الملكية إلى الجمهورية، حيث قضى نجيب الرئيس، أكثر من ثلث عمره فى المنفى ... "الموجز"، تفتح ملف الذكريات لتعيد على الأذهان كيف كانت نهاية الرئيس الأول لمصر.
بدأت الأزمات فى الرابع عشر من شهر ﺩﻳﺴﻤﺒﺮ 1954، عندما خرج ﻧﺠﻴﺐ ﻣﻦ ﺑﻴﺘﻪ الكائن فى ﺷﺎﺭﻉ ﺳﻌﻴﺪ ﺑﺤﻠﻤﻴﺔ ﺍﻟﺰﻳﺘﻮﻥ قاصدا مكتبه داخل ﻘﺼﺮ ﻋﺎﺑﺪﻳﻦ، إلا أنه لاحظ أن شيئا غريبا يدار من حوله، وعلم أن هناك مؤامرات تحاك له، حيث فوجئ بعدﻡ قيام ﺿﺒﺎﻁ ﺍﻟﺒﻮﻟﻴﺲ ﺍﻟﺤﺮﺑﻲ بأداء ﺍﻟﺘﺤﻴﺔ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ له، ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﺰﻝ ﻣﻦ ﺳﻴﺎﺭﺗﻪ ودﺧﻞ ﺍﻟﻘﺼﺮ ﻓﻮﺟﺊ ﺑـ "اﻟﺼﺎﻍ ﺣﺴﻴﻦ ﻋﺮﻓﺔ"، ﻣﻦ قوة ﺍﻟﺒﻮﻟﻴﺲ ﺍﻟﺤﺮﺑـى، ﻭﻣﻌﻪ ﺿﺎﺑﻄﺎﻥ ﻭ 10 ﺟﻨﻮﺩ ﻳﺤﻤﻠﻮﻥ ﺍﻟﺮﺷﺎﺷﺎﺕ ﻳﺤﻴﻄﻮﻥ ﺑﻪ، فصرخ نجيب ﻓﻲ ﻭﺟﻪ "ﺣﺴﻴﻦ ﻋﺮﻓﺔ"، وأمره بالاﺑﺘﻌﺎﺩ ﺣﺘـى ﻻ يُعرﺽ ﺟﻨﻮﺩﻩ ﻟﻠﻘﺘﺎﻝ ﻣﻊ ﺟﻨﻮﺩ ﺍﻟﺤﺮﺱ ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻱ ﻓﺎﺳﺘﺠﺎﺏ ﻟﻪ الصاغ، وبعد أحداث ومواقف متفرقة من الحرس الجمهورى والبوليس الحربى، حضر ﻋﺒﺪ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﻋﺎﻣﺮ ﺍﻟﻘﺎﺋﺪ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻟﻠﻘﻮﺍﺕ ﺍﻟﻤﺴﻠﺤﺔ، إلى قصر الرئاسة وأخبره وقتها ﻓﻲ ﺧﺠﻞ بأﻥ ﻣﺠﻠﺲ ﻗﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﻗﺮﺭ ﺇﻋﻔﺎﺀه ﻣﻦ ﻣﻨﺼﺐ الرئيس ﻓﺮﺩ عليه : ﺃﻧﺎ لن ﺃﺳﺘﻘﻴﻞ ﺍﻵﻥ ﻷﻧﻲ سأكون مسئوﻻ ﻋﻦ ﺿﻴﺎﻉ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ، ﺃﻣﺎ لو كان الأمر إقالة فمرحبا بالإقالة.
ويتذكر نجيب الرئيس، القسم الذى أقسمه عبدالحكيم عامر، بأنه لن يقيم فى ﻓﻴﻼ ﺯﻳﻨﺐ ﺍﻟﻮﻛﻴﻞ أكثر من بضعة أيام وسيعود ﺇﻟﻲ منزله إلا أن القسم ذهب أدراج الرياح، وظل حبيسا بها ولم ﻳﺨﺮﺝ منها ﻃيلة 30 ﻋﺎﻣﺎ، وﺧﺮﺝ ﻧﺠﻴﺐ خلال يومه الأخير من القصر الرئاسى، ﻓﻲ ﻫﺪﻭﺀ ﻭﺻﻤﺖ ﺣﺎﻣﻼ ﺍﻟﻤﺼﺤﻒ ﻣﻊ ﺣﺴﻦ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﻓﻲ ﺳﻴﺎﺭﺓ إلى منفاه فى ﺍﻟﻤﺮﺝ ﻭبلغ الحزن منتهاه فى قلب نجيب الرئيس، خاصة عندما ﺧﺮﺝ دون أن ﺗﺆﺩﻱ ﻟﻪ ﺍﻟﺘﺤﻴﺔ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ﻭﻟﻢ ﻳتم إطلاق اﻟﺒﺮﻭﺟﻲ ﻟﺘﺤﻴﺘﻪ ﻭﻗﺎﺭﻥ ﺑﻴﻦ ﻭﺩﺍﻋﻪ ﻟﻠﻤﻠﻚ ﻓﺎﺭﻭﻕ، ﺍﻟﺬﻱ تم إﻃﻠاﻖ 21 ﻃﻠﻘﺔ ﻭﺑﻴﻦ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻭﺩﺍﻋﻪ .
ولدى وصول نجيب الرئيس، ﺇﻟﻲ ﻓﻴﻼ ﺯﻳﻨﺐ ﺍﻟﻮﻛﻴﻞ، ﺑﺪﺃ ﻳتذوق الكثير من ﺃﻟﻮﺍﻥ ﺍﻟﻌﺬﺍﺏ حيث ﺳﺎﺭﻉ ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﺑﻘﻄﻒ ﺛﻤﺎﺭ ﺍﻟﺒﺮﺗﻘﺎﻝ ﻭﺍﻟﻴﻮﺳﻔﻲ ﻣﻦ الحديقة ﻭﺣﻤﻠﻮﺍ ﻣﻦ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻔﻴﻼ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺑﻬﺎ ﻣﻦ ﺃﺛﺎﺙ ﻭفرش، ﻭﻟﻮﺣﺎﺕ ﻭﺗﺤﻒ ﻭﺗﺮﻛﻮﻫﺎ ﻋﺎﺭﻳﺔ ﺍﻷﺭﺽ ﻭﺍﻟﺠﺪﺭﺍﻥ، وتمت مصادرة ﺃﺛﺎﺙ الفيلا ﺃﻭﺭﺍﻕ ﺍﻟﻠﻮﺍﺀ ﻧﺠﻴﺐ ﻭﺗﺤﻔﻪ ﻭﻧﻴﺎﺷﻴﻨﻪ ﻭﻧﻘﻮﺩﻩ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻲ ﺑﻴﺘﻪ ﻭتم ﻣﻨﻌﻪ ﺗﻤﺎﻣﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﺮﻭﺝ ﺃﻭ ﻣﻦ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ ﺃﻳﺎ ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﺣﺘﻰ ﻋﺎﺋﻠﺘﻪ .
وتم تشديد الحراسة حول الفيلا، والتأكيد على من يوجد داخل المنفى بعدم الخروج ﻣﻦ ﺍﻟﻐﺮﻭﺏ ﺇﻟﻲ ﺍﻟﺸﺮﻭﻕ ﻭﻛﺎﻥ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺃﻥ ﻳﻐﻠﻘﻮﺍ ﺍﻟﻨﻮﺍﻓﺬ ﻓﻲ ﻋﺰ ﺍﻟﺼﻴﻒ ﺗﺠﻨﺒﺎ ﻟﻠﺼﺪﺍﻉ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺴﺒﺒﻪ ﺍﻟﺠﻨﻮﺩ، حتى كتب نجيب فى مذكراته أنه خلال اﻟﺜﻼﺛﻴﻦ ﺳﻨﺔ ﺍﻟﻤﺎﺿﻴﺔ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺃﻣﺎمه ﺇﻻ ﺃﻥ يصلى ﺃﻭ يقرأ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ الكريم ﺃﻭ يتصفح ﺍﻟﻜﺘﺐ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ .
وتحدث نجيب فى مذكراته عن أبنائة قائلا، " ابنى الكبير توفى بعد الاعتقال، والأوسط مات مقتولا فى ألمانيا، والثالث طردوه من عمله بقرار جمهورى".
كما روى محمد نجيب الرئيس فى أن مجلس الثورة حذف اسمه من سجلات كتب التاريخ، قائلا
عندما جئنا إلى معتقل المرج جاء إلي فاروق " ابنى " ليسألني باهتمام شديد، أبي هل صحيح أنك كنت رئيساً للجمهورية ؟!!
وتعجبت للسؤال ولكني ابتسمت لفاروق وداعبته وقلت له، نعم يابني، ولكن ما الذي جعلك تسأل هذا السؤال ؟!
هذا تاريخ مضى وانقضى، ولمحت دموعاً حائرة في عيني الصبي وهو يقدم لي كتاباً في المطالعة جاءت فيه هذه العبارة، "وجمال عبد الناصر هو أول رئيس لجمهورية مصر" !.
فقد رفعت المطابع اسمي من كافة الكتب، وشطبوا اسمي من التاريخ، بل وحاولوا أن يتعاملوا معي كأنني لم أوجد ولم أولد، وكأنني كذبة أو خرافة أو إشاعة .
وفى وقت النكسة فى 1967 ﺭاﺳﻞ ﺠﻤﺎﻝ ﻋﺒﺪﺍﻟﻨﺎﺻﺮ ﻳﻄﻠﺐ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﺴﻤﺎﺡ ﻟﻪ ﺑﺎﻟﺨﺮﻭﺝ والعودة إلى ﺻﻔﻮﻑ ﺍﻟﺠﻴﺶ ﺑﺎﺳﻢ ﻣﺴﺘﻌﺎﺭ إﻻ أن الرد لم يصله حتى الممات، وأغضبه شائعات موته والتى استمع إلى إحداها عام 1966، من صحفي إسرائيلي، وظل ﺍﻟﺤﺎﻝ ﺣﺘﻲ عفا عنه الرئيس أنور السادات وأطلق سراحه ﻓﻲ ﻋﺎﻡ 1974 ﻋﻘﺐ ﺍﻻﻧﺘﺼﺎﺭ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺤﻘﻖ ﻓﻲ ﺣﺮﺏ ﺃﻛﺘﻮﺑﺮ 1973، حيث قال نجيب الرئيس فى مذكراته : ﻗﺎﻝ ﻟﻲ ﺍﻟﺴﺎﺩﺍﺕ : " أﻧﺖ ﺣﺮ ﻃﻠﻴﻖ " ﻟﻢ ﺃﺻﺪﻕ ﻧﻔﺴﻲ ﻫﻞ ﺃﺳﺘﻄﻴﻊ أﻥ أﺧﺮﺝ ﻭأﺩﺧﻞ ﺑﻼ ﺣﺮﺍﺳﺔ؟، ﻫﻞ أﺳﺘﻄﻴﻊ أﻥ أﺗﻜﻠﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻠﻔﻮﻥ ﺑﻼ ﺗﺼﻨت؟، ﻫﻞ أﺳﺘﻄﻴﻊ أﻥ أﺳﺘﻘﺒﻞ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﻼ ﺭﻗﻴﺐ؟.
ﻟﻢ أﺻﺪﻕ ﺫﻟﻚ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ فالسجين ﻓﻲ ﺣﺎﺟﺔ ﻟﺒﻌﺾ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻟﻴﺘﻌﻮﺩ ﻋﻠﻰ ﺳﺠﻨﻪ، ﻭﻓﻲ ﺣﺎﺟﺔ أيضا ﻟﺒﻌﺾ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻟﻴﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﺣﺮﻳﺘﻪ، ﻭأﻧﺎ ﻟﻢ أﻛﻦ ﺳﺠﻴﻨﺎ ﻋﺎﺩﻳﺎ ﻛﻨﺖ ﺳﺠﻴﻨﺎ ﻳﺤﺼﻮﻥ أﻧﻔﺎﺳﻪ ﻭﻳﺘﺼﻨﺘﻮﻥ ﻋﻠﻰ مكالماته ﻭﻳﺰﺭﻋﻮﻥ ﺍﻟﻤﻴﻜﺮﻓﻮﻧﺎﺕ ﻭﺍﻟﻌﺪﺳﺎﺕ فى ﺣﺠﺮﺓ ﻣﻌﻴﺸﺘﻪ .
ويقول نجيب فى مذكراته إننى كنت أﺧﺸﻰ أﻥ ﺍﻗﺘﺮﺏ ﻣﻦ ﺃﺣﺪ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﺨﺘﻔﻲ ﻭأﺗﺤﺎﺷﻰ ﺯﻳﺎﺭﺓ ﺍﻻﻫﻞ ﻭﺍﻻﺻﺪﻗﺎﺀ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﺘﻌﻜﺮ ﺻﻔﻮ ﺣﻴﺎﺗﻬﻢ ﻭأبتعد ﻋﻦ ﺍﻷﻣﺎﻛﻦ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﻠﺘﻒ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺣﻮﻟﻲ فيذﻫﺒﻮﻥ ﻭﺭﺍﺀ ﺍﻟﺸﻤﺲ، ولكن ﺑﻌﺪ ﻓﺘﺮﺓ ﻭﺑﺎﻟﺘﺪﺭﻳﺞ ﻋﺪﺕ ﺇﻟﻰ ﺣﺮﻳﺘﻲ ﻭﻋﺪﺕ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻭﻋﺪﺕ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ.
وفي عام 1983 خصص الرئيس الراحل حسنى مبارك، فيلا للرئيس الأسبق محمد نجيب، بقصر القبة، لكنه لم يعش فيها أكثر من عام، حيث مات في أغسطس من العام التالي، وحال الرئيس مبارك دون تنفيذ وصية نجيب التى طلب فيها ألا يتم دفنه في مصر، لكن رفض مبارك بشدة وأقام له جنازة عسكرية انطلقت من مسجد رابعة العدوية، وتم دفنه بمقابر الشهداء.
من جانبه دون نجيب قصته كاملة في كتابه ” كنت رئيسًا لمصر”، والذى لم يحمل فيه الإساءة إلى أحد من ضباط الثورة رغم ما فعلوه بهم، كما ذكر فيه طريقه كاملًا، من الحكم إلى العزﻝ، معلنا غضبه من حملة التجاهل والتلاعب وتزييف التاريخ حيث تم رفع اسمه من كتب التاريخ.