إذا أسلمت الزوجة دون زوجها فهل يستمر نكاحهما بعد إسلامها؟
إذا أسلم الزوجان معًا، ولم تكن الزوجة ممَّن يحرم عليه ابتداء الزواج بها كالمحرَّمة بنسب أو رضاع، فهما على نكاحهما الأول سواء كان هذا قبل الدخول أو بعده؛ لأن الشرع قد أقر الكفار على أنكحتهم، فهم يقرون عليها إذا أسلموا أو تحاكموا إلى المسلمين، من غير أن يُنظر إلى صفة عقدهم وكيفيته، ولا يعتبر له شروط أنكحة المسلمين من الولي والشهود وصيغة الإيجاب والقبول وأشباه ذلك؛ فقد أسلم خلق في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسلم نساؤهم، وأقروا على أنكحتهم، ولم يسألهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن شروط النكاح ولا كيفيته، وهذا أمر علم بالتواتر والضرورة، وقد نُقل الإجماع على ذلك. "المغني" لابن قدامة (7/ 116 ط. دار إحياء التراث العربي)، و"التمهيد" (12/ 23، ط. وزارة الأوقاف المغربية).
وكذلك إذا أسلم الزوج وحده وكانت الزوجة من أهل الكتاب ولم تكن ممن يحرم عليه ابتداءً، فهما على نكاحهما الأول، سواء كان قبل الدخول أو بعده؛ لأن نكاح الكتابيات مباح للمسلم؛ لقوله تعالى: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾ [المائدة: 5]، فالكتابية محل لنكاح المسلم ابتداءً فكذا بقاء.
أما إذا أسلمت الزوجة وبقي زوجها على دينه، فالمختار للفتوى: أنه إن كان إسلامها قبل الدخول فتتعجل الفرقة؛ لأن هذا هو الأصل، ولا تظهر هنا مصلحة راجحة تصرفنا عنه، وإن كان إسلامها بعد الدخول وأسلم زوجها قبل انقضاء عدتها فهما على نكاحهما، وإن انقضتِ العدة ولم يسلم الزوج خلالها فلها حرية الاختيار، فإن اختارت أن تتزوج من تشاء فلها ذلك، لكن لا بد أن ترفع الأمر إلى القاضي؛ لكي يفسخ عقد النكاح، وإن اختارت أن تتربص وتنتظر إسلامه ولو طالت المدة فلها ذلك، ويعتبر في هذه الحالة النكاح موقوفًا، فإن أسلم فهما على نكاحهما الأول دون الحاجة إلى تجديد عقد النكاح مع اعتبار وقوع الانفصال الحسي وتوقف المعاشرة الزوجية بينهما من أول إسلامها.
وهذا الرأي قال به ابن تيمية وابن القيم، واختاره الصنعاني، وارتضاه الشوكاني. "مجموع الفتاوى" (32/ 209، ط. دار الوفاء)، و"أحكام أهل الذمة" (2/ 692، ط. دار ابن حزم)، و"سبل السلام" (1/ 148، ط. دار الحديث)، و"نيل الأوطار" (6/ 215، ط. دار الحديث).
والدليل على ما اخترناه للفتوى عدة أدلة:
الأول: ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ردَّ ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول، فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "رَدَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ زَيْنَبَ ابْنَتَهُ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا" رواه أحمد وأبو داود والحاكم. وفي لفظ: "لَمْ يُحْدِثْ صَدَاقًا" رواه أحمد والحاكم، وفي لفظ آخر: "لم يُحْدِثْ شَهَادةً ولا صَدَاقاً" رواه أحمد، وفي لفظ: "لَمْ يُحْدِثْ نِكَاحًا" رواه الترمذي، وفي رواية: "بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ" رواها أبو داود والحاكم والبيهقي في "الكبرى"، وفي رواية: "بَعْدَ سَنَتَيْنِ" رواها أحمد وأبو داود والحاكم.
فقد دل فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا على أن رد المرأة علـى زوجهـا بعد إسلامـه لا يحتاج إلى تجديد وإن طال الزمان وانقضت العدة.
وأما ما روي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما أنه ردَّها بنكاح جديد، فقد جاء بلفظين:
أولهما: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِمَهْرٍ جَدِيدٍ وَنِكَاحٍ جَدِيدٍ" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
ثانيهما: "أَسْلَمَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَبْلَ زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بِسَنَةٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَبُو الْعَاصِ فَرَدَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ" رواه الحاكم.
ومدار هذا الحديث بلفظيه على الحجاج بن أرطأة، فهو راويه عن عمرو بن شعيب، وقد كان مدلسًا قبيح التدليس، يدلس عن المجروحين. قال أحمد عنه: [هذا حديث ضعيف، أو قال: واهٍ، ولم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب، إنما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمي، والعرزمي لا يساوي حديثه شيئًا، والحديث الصحيح الذي روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرهما على النكاح الأول] اهـ. "مسند أحمد" (2/ 207، ط. مؤسسة قرطبة).
وهذا الحديث ضعَّفه الترمذي أيضًا، وقال: [في إسناده مقال] اهـ. وقال الدارقطني عن هذا الحديث: [لا يثبت، وحجاج لا يحتج به، والصواب حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ"] اهـ. "سنن الدارقطني" (3/ 253، ط. دار المعرفة).
وثاني الأدلة: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أسلَمَتِ امرأةٌ على عَهدِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فتزوَّجَتْ، فجاء زوجُها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسولَ الله، إني قد كُنْتُ أسلَمتُ وعَلِمَت بإسلامي، فانتزعَها رسولُ الله صلَّى الله عليه وآله وسلم منْ زَوْجِهَا الآخرِ، ورَدَّها إلى زوجها الأول" رواه أبي داود.
وفي لفظ: "أَنَّ رَجُلًا جَاءَ مُسْلِمًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، ثُمَّ جَاءَتْ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا كَانَتْ أَسْلَمَتْ مَعِي، فَرُدَّهَا عَلَيَّ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ" رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم.
ووجه الدلالة: عدم استفصاله صلى الله عليه وآله وسلم هل علمت زوجته بإسلامه قبل انقضاء عدتها أم لا؟ مما يدل على أن العدة لا اعتبار لها، وذلك بناءً على أن ترك الاستفصال في وقائع الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. "البحر المحيط" (4/ 201، ط. دار الكتبي).
والاحتمال هنا قائم، هل علمت بإسلامه قبل انقضاء العدة أم بعدها؟ ومع ذلك لم يستفصل منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدلَّ ذلك على عموم هذا الحكم للحالين وأنه لا فرق بين أن يقع الرد قبل انقضاء العدة أو بعدها.
الثالث: ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: "كَانَ المُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَالمُؤْمِنِينَ: كَانُوا مُشْرِكِي أَهْلِ حَرْبٍ، يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ، وَمُشْرِكِي أَهْلِ عَهْدٍ، لاَ يُقَاتِلُهُمْ وَلاَ يُقَاتِلُونَهُ، وَكَانَ إِذَا هَاجَرَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ، فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ، فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إِلَيْهِ، وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَمَةٌ فَهُمَا حُرَّانِ، وَلَهُمَا مَا لِلْمُهَاجِرِينَ" رواه البخاري.
ومعنى ذلك: أن نكاحها الأول يبقى قائمًا، ولكنه موقوف، بمعنى عدم حل المعاشرة الزوجية بينهما حتى إذا تزوجت من آخر انحل العقد الأول، وإذا أسلم زوجها قبل أن تتزوج غيره ردَّت إليه.
الرابع: أن المرأة كانت تسلم ثم يسلم زوجها بعدها والنكاح بحاله، مثل أم الفضـل امـرأة العباس بـن عبد المطلب رضي الله عنهما فإنها أسلمت قبل العباس بمدة، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: " كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِمَّنْ عَذَرَ اللهُ بقوله: ﴿إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾ [النساء: 98]" رواه البخاري.
وسرُّ المسألة كما يرى ابن القيم: [أَنَّ الْعَقْدَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ جَائِزٌ لَا لَازِمٌ، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى الزَّوْجَةِ فِيهِ، وَلَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ إِذَا أَسْلَمَ، وَامْتَنَعَتِ الْمُشْرِكَةُ أَنْ تُسْلِمَ، فَإِمْسَاكُهُ لَهَا يَضُرُّ بِهَا، وَلَا مَصْلَحَةَ لَهَا فِيهِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَقُمْ لَهَا بِمَا تَسْتَحِقُّهُ كَانَ ظَالِمًا، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ [الممتحنة: 10]، فَنَهَى الرِّجَالَ أَنْ يَسْتَدِيمُوا نِكَاحَ الْكَافِرَةِ] اهـ. "أحكام أهل الذمة" لابن القيم (2/ 662-663، ط. رمادي للنشر).
وما اخترناه للفتوى نخالف فيه رأي فقهاء المذاهب الأربعة، حيث يرى المالكية والشافعية والحنابلة أنه متى انقضت العدة ولم يُسلِم الزوج وقعت الفرقة بينهما "الفواكه الدواني" (2/ 26، ط. دار الفكر)، و"نهاية المحتاج" (6/ 295، ط. دار الفكر)، و"كشاف القناع" (5/ 119-120، ط. دار الكتب العلمية)، واستدلوا على ذلك بما روي عن ابن شُبْرُمَة أنه قال: "كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسلم الرجل قبل المرأة والمرأة قبله فأيهما أسلم قبل انقضاء العدة فهي امرأته، وإن أسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما". وبما روي عن الزهري: "لم يبلغنا أن امرأة هاجرت وزوجها مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل انقضاء عدتها". "المدونة" (2/ 214، ط. دار الكتب العلمية)، و"زاد المعاد" (5/ 122، ط. مؤسسة الرسالة)، و"كشاف القناع" (5/ 120).
لكن لا يسلم لهذه الأدلة، فما روي عن ابن شُبْرُمة معضل الإسناد؛ لأن ابن شُبْرُمة غالب رواياته عن التابعين. وقول ابن شهاب الزهري أخرجه مالك في "الموطأ"، والبيهقي في "الكبرى"، وقال الطحاوي: [وهو منقطع لا يصح الاحتجاج به في الأصول] اهـ. كما في "مختصر اختلاف العلماء" (2/ 235، ط. دار البشائر الإسلامية).
ويشكل على هذا كله الحديث الذي ذكرناه: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ردَّ ابنته زينب على زوجها بالنكاح الأول".
ويرى الحنفية التفرقة بين دار الإسلام ودار الحرب، ففي دار الإسلام: إذا أسلمت الزوجة والزوج من أهل الكتاب أو من غير أهل الكتاب يُعرض عليه الإسلام، فإن أسلم بقيا على نكاحهما وإلا فرَّق القاضي بينهما، لا فرق بين المدخول بها وغير المدخول، وإذا كان إسلامها في دار الحرب فتتوقف الفرقة بينهما على انقضاء ثلاث حيضات إن كانت ممن تحيض، أو تمضي ثلاثة أشهر، فإذا أسلم الزوج خلال هذه المدة فالنكاح باقٍ، وإلا وقعت الفرقة، وهذه المدة ليست عدة؛ لأنها تشمل غير المدخول بها. وإذا كان الزوجان من أهل دار الحرب، وأسلم أحدهما، وخرج إلى دار الإسلام تقع الفرقة؛ لاختلاف الدارين. "بدائع الصنائع" (2/ 338، ط. دار الكتب العلمية).
واستدلوا على الحالة الأولى: بما روي أن رجلًا من بني تَغْلِب أسلمت امرأته، فعرض عمر رضي الله عنه عليه الإسلام، فامتنع، ففرَّق بينهما، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولو وقعت الفرقة بنفس الإسلام لما وقعت الحاجة إلى التفريق، كما أن الإسلام لا يجوز أن يكون مبطلًا للنكاح؛ لأنه عُرِف عاصمًا للأملاك، فكيف يكون مبطلًا لها، ولا يجوز أن يبطل بالكفر أيضًا؛ لأن الكفر كان موجودًا منهما، ولم يمنع ابتداء النكاح، فلأن لا يمنع البقاء أسهل وأولى، وكذلك اختلاف الدِّين فإنه بعينه ليس بسبب لإبطال النكاح، كما لو كان الزوج مسلمًا والمرأة كتابية، إلا أنا لو أبقينا النكاح بينهما لا تحصل المقاصد؛ لأن مقاصد النكاح لا تحصل إلا بالاستفراش، والكافر لا يمكَّن من استفراش المسلمة، والمسلم لا يحل له استفراش المشركة والمجوسية؛ لخبثهما، فلم يكن في بقاء هذا النكاح فائدة، إذن فتفريق القاضي بينهما يكون عند إباء الإسلام، وهذا هو السبب الموجب للفرقة "المبسوط" (5/ 45، ط. دار المعرفة)، "بدائع الصنائع" (2/ 336).
واستدلوا على الحالة الثانية: بأن مجرد إسلام أحدهما غير موجب للفرقة، ولا كفر من أصر منهما على الكفر، ولا اختلاف الدِّين كما مرَّ، إلا أن في دار الإسلام يمكن تقرير سبب الفرقة بعرض القاضي الإسلام على الآخر منهما حتى إذا أبى فـرَّق بينهما، وفي دار الحرب لا يتأتى ذلك؛ لفقد الولي الذي يعرض عليه الإسلام، فتُقام ثلاث حيضات مقام ثلاث عرضات من القاضي في تقرر سبب الفرقة. "المبسوط" (5/ 56)، و"بدائع الصنائع" (2/ 338).
واستدلوا على الحالة الثالثة بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ﴾ الآية [الممتحنة: 10]. قال أبو بكر الجصاص: [في هذه الآية ضروب من الدلالة على وقوع الفرقة باختلاف الدارين بين الزوجين هي قوله: ﴿فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾، ولو كانت الزوجية باقية لكان الزوج أولى بها بأن تكون معه حيث أراد، وقولـه: ﴿لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾، وقوله: ﴿وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا﴾؛ لأنه أمر برد مهرها على الزوج، ولو كانت الزوجية باقية لما استحق الزوج رد المهر؛ لأنه لا يجوز أن يستـحق البضع وبدلـه، وقولـه: ﴿وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ ولو كان النكاح الأول باقيًا لما جاز لها أن تتزوج ويدل عليه قوله: ﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ [الممتحنه: 10]، والعصمة المنع، فنهانا أن نمتنع من تزويجها لأجل زوجها الحربي] اهـ. "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 655-356).
واستدلوا أيضًا بقصة سبايا أَوْطَاس، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى أَوْطَاسٍ فَلَقُوا عَدُوًّا فَقَاتَلُوهُمْ فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا فَكَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم تَحَرَّجُوا مِنْ غِشْيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِى ذَلِكَ: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ﴾ أَىْ فَهُنَّ لَكُمْ حَلاَلٌ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ" رواه مسلم.
وقد اتفق الفقهاء على جواز وطء المسبية بعد الاستبراء، وإن كان لها زوج في دار الحرب إذا لم يسب زوجها معها، فلا يخلو وقوع الفرقة من أن يتعلق بإسلامها أو باختلاف الدارين أو بحدوث الملك عليها، وقد اتفق الجميع على أن إسلامها لا يوجب الفرقة في الحال، وثبت أيضًا أن حدوث الملك لا يرفع النكاح؛ بدلالة أن الأمة التي لها زوج إذا بيعت لم تقع الفرقة، وكذلك إذا مات رجل عن أمة لها زوج لم يكن انتقال الملك إلى الوارث رافعًا للنكاح، فلم يبقَ وجه لإيقاع الفرقة إلا اختلاف الدارين، ومعنى اختلاف الدارين: أن يكون أحدهما من أهل دار الإسلام: إما بالإسلام أو بالذمة، والآخر من أهل دار الحرب، فيكون حربيًا كافرًا، فأما إذا كانا مسلمين فهما من أهل دار واحدة، وإن كان أحدهما مقيمًا في دار الحرب والآخر في دار الإسلام.
ويرد ما استدلوا به على وقوع الفرقة في دار الإسلام بتفريق القاضي عند إباء الزوج، بمـا يلي:
أولًا: قصة الرجل التَّغْلِبي ضعيفة، فمدارها على مجاهيل، ولا وجه لمقارنتها مع القصة الأخرى المروية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنـه التي ذكرناها في جملة أدلتنا، وبيان ذلك: أن هذه القصة أخرجها ابن أبي شيبة في "المصنف" (4/ 105، ط. دار الرشد)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 212، ط. دار الفكر) من طريق علي بن مُسْهِر، كما أخرجها الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 259، ط. دار المعرفة) من طريق معاوية الضرير، ثم من طريق أبي يوسف القاضي، والثلاثة علي ومعاوية وأبي يوسف عن أبي إسحاق الشيباني عن السفاح بن مطر عن داود بن كردوس، وإسنادها ضعيف؛ فداود بن كردوس مجهول الحال، كما قال الذهبي في "الميزان"، (2/ 19، ط. دار المعرفة)، لم يروِ عنه غير السفاح بن مطر، وهو مجهول الحال كذلك، لم يشتهر بعلم ولا رواية، إذ لم يروِ عنه غير رجلين: أبو إسحاق الشيباني، والعوام بن حوشب، وهما ثقتان، ومن كان هذا وصفه في الرواة فلا يحتج به، وإنما يصلح حديثه في المتابعات والشواهد.
ورواها ابن أبي شيبة في "المصنف": (4/ 105) عن عباد بن العوام، والبخاري في "التاريخ الكبير": (4/ 212) عن شعبة بن الحجاج، كلاهما عن الشيباني عن يزيد بن علقمة.
ورواها عبد الرزاق في "المصنف" (6/ 83، 7/ 174، ط. المكتب الإسلامي) عن سفيان الثوري عن الشيباني، قال أنبأني ابن المرأة التي فرَّق بينهما عمر حين عرض عليه الإسلام فأبى ...إلخ.
فهذا المبهم من رواية سفيان يشبه أن يكون يزيد بن علقمة نفسه، لكن يزيد بن علقمة هذا أغمض حالًا من السفاح، فقد تفرد بالرواية عنه الشيباني، ولا يعرف، بل هو مجهول نكرة، وهل أدرك عهد عمر رضي الله عنه؟ في هذا نظر والله أعلم. راجع: "إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه"، للدكتور عبد الله الجديع (ص 106) بحث ضمن أبحاث مجلة مجلس الإفتاء الأوروبي (العدد الثاني، يناير 2003م/ ذو القعدة 1423هـ).
ثانيًا: الإسلام لا يجوز أن يكون مبطلًا للنكاح، وكذلك الكفر كما قالوا، لكن لا يلزم بالضرورة من عدم كون النكاح باطلًا أن يكون لازمًا؛ لأن النكاح بالإسلام يصير جائزًا بعد أن كان لازمًا، فيجوز للقاضي أن يعجل الفرقة ما دام أن المرأة هي التي اختارت هذا ورفعت الأمر إليه، كما أنه يجوز لها أن تتربص إلى ما شاء الله تنتظر إسلام زوجها ما دامت هي التي اختارت ذلك.
فالنكاح له ثلاثة أحوال: حال لزوم، وحال تحريم وفسخ، كمن أسلم وتحته من لا يجوز ابتداء العقد عليها، وحال جواز ووقف وهي مرتبة بين المرتبتين لا يحكم فيها بلزوم النكاح ولا بانقطاعه بالكلية، وفي هذه الحال تكون الزوجة بائنة من وجه دون وجه. وهكذا الحال في قصة السيدة زينب وأبي العاص كما مرَّ.
والنكاح في هذه المدة التي تتخير فيها المرأة لا يحكم ببطلانه ولا بلزومه وبقائه من كل وجه، ولهذا خيَّر أمير المؤمنين المرأة التي أسلمت من أهل الحيرة ولم يسلم زوجها كما سبق في جملة أدلتنا.
أما القول بأنه ليس في بقاء النكاح فائدة لعدم حصول مقاصده فغير مسلَّم، فبقاء العقد جائزًا غير لازم من غير تمكين الوطء خير محض، ومصلحة راجحة للزوجين في الدنيا والآخرة من غير مفسدة. "أحكام أهل الذمة" لابن القيم (2/ 695).
وأما ما استدلوا به على وقوع الفرقة في دار الحرب بانقضاء ثلاث حيضات تُقام مقام ثلاث عرضات من القاضي قبل التفريق وذلك لفقد الولي؛ لأن في دار الإسلام يمكن تقرير سبب الفرقة بعرض القاضي الإسلام على الآخر منهما حتى إذا أبى فرَّق بينهما، وفي دار الحرب لا يتأتى ذلك، فجوابه: أنَّ هذه مجرد دعوى تفتقر إلى الدليل، بل الثابت خلاف ذلك كما هو واضح في قصة السيدة زينب من رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
ويردُّ ما استدلوا به على وقوع الفرقة إذا كان الزوجان من أهل دار الحرب وأسلم أحدهما وخرج إلى دار الإسلام لاختلاف الدارين بما يلي:
أولًا: بأنه ليس في آية سورة الممتحنة ما يقتضي ما ذهبوا إليه أصلًا، فقوله تعالى: ﴿فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ﴾، إنما يدل على النهي عن رد النساء المهاجرات إلى الله ورسوله إلى الكفار خشية أن يفتتن في دينهن فأين في هذا ما يقتضي وقوع الفرقة وأنها لا تنتظر زوجها حتى يصير مسلمًا مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم ترد إليه؟
وكذلك قوله تعالى: ﴿لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾، إنما فيه إثبات التحريم بين المسلمين والكفار، وأن أحدهما لا يحل للآخر، وليس فيه ما يقتضي وقوع الفرقة، وأن أحدهما لا يتربص بصاحبه الإسلام فيحل له إذا أسلما.
وقوله تعالى: ﴿وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا﴾ ليس فيه دليل أيضًا على وقوع الفرقة فورًا، فإعطاء الزوج ما أنفق إنما هو تطييب لخاطره، وإذا اختارت زوجته أن تتربص بإسلامه فلها ذلك، وإذا أسلم ردت إليه بالنكاح الأول، ثم إن هناك خلافًا في إيتاء المهر للأزواج هل هو على سبيل الوجوب أم الندب، وهل هذا للمعاهدين فقط أم للمعاهدين والمحاربين.
أما قوله تعالى: ﴿وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ فهو خطاب للمسلمين معطوف على سابقه، غايته رفع الحرج عنهم أن ينكحوا المؤمنات المهاجرات إذا بِنَّ من أزواجهن وتخلين عنهم، وهذا إنما يكون بعد انقضاء عدة المرأة واختيارها لنفسها، ولا ريب أن المرأة إذا انقضت عدتها تُخيَّر بين أن تتزوج من شاءت وبين أن تقيم حتى يسلم زوجها فترجع إليه.
وأما قولـه تعالى: ﴿وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ﴾ فإنما تضمن النهي عن استدامة نكاح المشركة والتمسك بها وهي مقيمة على شركها وكفرها، وليس فيه النهي عن الانتظار حتى تسلم ثم يمسك بعصمتها.
ثانيًا: التحقيق في قصة سبايا أَوْطَاس أن الذي أبطل عقد النكاح هو الملك بالسباء لا اختلاف الدار؛ قال الإمام النووي عند شرحه لهذا الحديث: [والمراد بالمحصنات هنا المزوجات. ومعناه: والمزوجات حرام على غير أزواجهن، إلا ما ملكتم بالسبي، فإنه ينفسخ نكاح زوجها الكافر، وتحل لكم إذا انقضى استبراؤها] اهـ. "شرح صحيح مسلم" للإمام النووي (10/ 35، ط. دار إحياء التراث العربي).
وقد دلَّت كتب أسباب النزول على ذلك أيضًا: "لباب النقول في أسباب النزول" للسيوطي (ص 64، ط. دار إحياء العلوم ببيروت)، إذن فالذي أبطل عقد النكاح في هذه الحالة خاصة هو الملك بالسباء، لا مطلق الملك.
يقول الإمام الماوردي في "الحاوي الكبير" (9/ 260، ط. دار الكتب العلمية): [والدليل على أن اختلاف الدارين لا يوجب وقوع الفرقة بإسلام أحد الزوجين: ما روي أن أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام أسلما بمرِّ الظهران وهي بحلول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها واستيلائه عليها دار إسلام وزوجتاهما على الشرك بمكة وهي إذ ذاك دار الحرب ثم أسلمتا بعد الفتح، فأقرهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النكاح] اهـ.
فإن قيل: مرُّ الظهران من سواد مكة، وتابعة لها في الحكم، فلم يكن إسلامهما إلا في دار واحدة، ففيه جوابان:
أحدهما: أن مر الظهران دار الخزاعة محازة عن حكم مكة؛ لأن خزاعة كانت في حلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت بنو بكر في حلف قريش، ولنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخزاعة صار إلى قريش بمكة.
والجواب الثاني: أن مر الظهران لو كان من سواد مكة لجاز أن ينفرد عن حكمها باستيلاء الإسلام عليها، كما لو فتح المسلمون سواد بلد من دار الحرب صار ذلك السواد دار إسلام، وإن كان البلد دار الحرب، ويدل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل مكة عام الفتح، هرب صفوان بن أمية إلى الطائف، وهرب عكرمة بن أبي جهل إلى ساحل البحر مشركين، فأسلمت زوجاتهما بمكة، وكانت زوجة صفوان برزة بنت مسعود بن عمرو الثقفي، وزوجة عكرمة أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة، وأخذتا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمانًا لهما، فدخل صفوان من الطائف بالأمان، وأقام على شركه حتى شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حنينًا، وأعاره سلاحًا ثم أسلم، وعاد عكرمة من ساحل البحر وقد عزم على ركوبه هربًا فأسلم، فأقرهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع زوجتيهما مع اختلاف الدارين بهما؛ لأن مكة كانت قد صارت بالفتح دار إسلام، وكانت الطائف والساحل دار الحرب، فإن قيل: هما من سواد مكة وفي حكمهما، فالجواب عنه بما مضى.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما في رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته زينب على أبي العاص، فردَّه الحنفية بأن مذهب ابن عباس أن الفرقة تقع بالإسلام، بدليل ما روى خالد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في اليهودية تسلم قبل زوجها: أنها أملك لنفسها، وغير جائز أن يخالف ابن عباس رضي الله عنهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما قد رواه عنه.
لكن لا يسلَّم ما قالوه؛ لأن قوله: "هي أملك لنفسها" دال على أن العقد ينفسخ باختيار المرأة، لا بمجرد إسلامها.
والخلاصة: أن الزوجة إذا أسلمت وبقي زوجها على دينه سواء كان هذا في ديار المسلمين أو ديار غير المسلمين حرمت المعاشرة الزوجية ومقدماتها بينهما على الفور، وتقوم بعرض الإسلام عليه بنفسها، أو توكل من يقوم بهذا الأمر، فإن أسلم فهما على نكاحهما، وإن بقي على دينه حتى انقضاء العدة، فالزوجة مخيَّرة بين أن تطلب فسخ عقد الزواج على وجه التراضي مع زوجها أو برفع الأمر إلى القاضي ليفسخ نكاحها، أو أن تنتظر إسلام زوجها، ووقتما أسلم فهما على نكاحهما.
والأمر في ديار المسلمين سهل، فهي لا تمكث معه في بيت واحد، وبمجرد رفع الأمر إلى القاضي سيطلقها، أما في ديار غير المسلمين فالأمر صعب، فإن استطاعت أن لا تمكث معه في بيت واحد فهو المتعيَّن، وإلا جاز، ومع ذلك فلا بد وأن تتحرز من الانكشاف أمامه، وقد يتأخر فسخ العقد إلى سنوات، ولكن عليها بالصبر وعدم الزواج من آخر حتى ينفسخ عقد الزواج رسميًّا، حتى لا تتعرض لمشكلات كثيرة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.