لأول مرة.. التحليل النفسي والسياسي لأبي أحمد وعصابته في أثيوبيا
نشر المركز المصري للدراسات والفكر الاستراتيجي دراسة عن التحليل النفسي والسياسي لقادة أثيوبيا فيما يخص تفاوضهم بشأن النهضة مع مصر والسودان.
الداسة التي كتبتها الدكتورة عزه هاشم أستاذ علم النفس السياسي كشفت لنا أسباب التعنت الأثيوبي.. وإلي نص الدراسة ..
"هل يسعى المفاوض الإثيوبي بالفعل نحو التوصل لحل لقضية سد النهضة؟ ما العائد من الإصرار على استعداء مصر؟ لماذا تصل المحادثات مع الجانب الإثيوبي دومًا إلى طريق مسدود؟ لماذا يتبنى المفاوض الإثيوبي لغة المنح والمنع في حديثه حول السد؟ لماذا يتصاعد الحديث من جانبه عن الحرب والحشد في وقت التفاوض؟ هل نحن أمام حسابات منطقية قائمة على الحد من الخسائر وتعظيم المكاسب؟ هذه التساؤلات وغيرها تدور في أذهان المتابعين لمفاوضات سد النهضة الإثيوبي، والتي أعلنت وزارة الري المصرية انتهاءها دون تحقيق تقدم يُذكر، وهو ما أعقبته سلسلة من التصريحات التصعيدية على لسان عدد من المسئولين في إثيوبيا، وعلى رأسهم وزير الخارجية الإثيوبي. إن تلك التصريحات واحدة من سلسلة تصريحات تصعيدية متتالية تثير العديد من التساؤلات، ليس فقط حول أسباب الموقف الإثيوبي، ولكن عن الجذور النفسية لهذا الموقف، وتفسيره النفسي، خاصة أنه يبدو في الكثير من الأحيان وكأنه لا يصدر عن حسابات عقلانية منطقية، أكثر من كونه يعبر عن مواقف تشكلت مسبقًا، وتبدو طاولة المفاوضات كموقع للإعلان عنها وإبلاغها وليس مناقشتها. إن القضية هنا تتجاوز العملية التفاوضية، وتمتد للعقول التي تدير العملية، وأهدافها، وتوجهاتها، وإدراكاتها، وطريقة وزنها للأمور، ومعالجتها لمواقف المكسب والخسارة، وحقوق الطرف الآخر وحدود الضرر والاكتراث.
استنادًا إلى متابعة مسار العملية التفاوضية بين إثيوبيا والسودان ومصر حول السد الإثيوبي، وما يستتبعها من تحركات وتصريحات من المسئولين الإثيوبيين، يمكن تحديد عدد من الأبعاد النفسية الحاكمة للسلوك التفاوضي الذي يُفضي في نهاية الأمر إلى طريق مسدود. والحقيقة فإن معضلة العملية التفاوضية أنها في جزء كبير منها قائمة على مدركات القائمين عليها، ولعل الفجوة بين المدرك والواقع تمثل بعدًا نفسيًّا مهمًّا يمكن أن يساعد في فهم ما هو غامض في توجهات الطرف الإثيوبي حيال القضية. ويمكن الحديث عن المنطق والمدركات النفسية للمسئولين في إثيوبيا حيال ملف سد النهضة استنادًا إلى عدد من التفسيرات التي يمكن إجمالها فيما يلي:
1- المياه مياهنا.. عقلية المالك
تتبنى إثيوبيا في تعاطيها مع قضية السد موقف “المالك”. القناعة والإدراك بملكية نهر النيل تبدو واضحة في تصريحات المسئولين، وفي العقل الجمعي للشعب الإثيوبي. على سبيل المثال، نجد وزير الخارجية الإثيوبي “غيدو أندارغاشيو” يُشير في تصريحاته التي أعلن فيها بتاريخ ٢٠ مايو ٢٠٢٠ أن بلاده ستبدأ في ملء سد النهضة اعتبارًا من يوليو المقبل، وأن بلاده سوف تبدأ في التعبئة الأولية لخزان سد النهضة، مضيفًا: “الأرض أرضنا، والمياه مياهنا، والمال الذي يُبنى به سد النهضة مالنا، ولا قوة يمكنها منعنا من بنائه”.
ينظر المفاوض الإثيوبي إلى مياه النيل من منطلق الملكية التي يقوم هو بتمريرها نحو الغير ممثلًا في الجانبين المصري والسوداني، ومن يملك يتفضل وينعم ولكن لا يطيع أو ينصاع لأي مطالب، وسيرفض بالطبع أي صياغة تسلبه تلك الملكية المزعومة. يبدو هذا الشعور بالملكية واضحًا للغاية، ويصعب إخفاؤه حتى في التصريحات العلنية، حتى عند إرسال رسائل الطمأنة إلى مصر، نجد أنها رسائل فوقية يطلقها “المالك”. إن عقيدة التملك تلك هي التي دفعت إثيوبيا لرفض التوقيع على أي وثائق قانونية ملزمة، والاكتفاء فقط بوضع قواعد غير ملزمة.
2- موقف المانح والمانع
يبدو موقف المنح والمنع هذا بوضوح عندما يتبنى المفاوض موقف المالك، وفقًا لما سبق التطرق له. المفاوض المصري يتحدث من مقعد الشريك، بينما يتحدث المفاوض الإثيوبي من مقعد المانح، المفاوض المصري يتحدث عن حق قانوني، والمفاوض الإثيوبي يتحدث عن تفضل دون نقاش. ومن هنا، فإن الإدراك الخاطئ للمواقف، والجلوس على المقاعد الخاطئة، يؤدي بالضرورة إلى الإخفاق. ومن هنا فإن المفاوض الإثيوبي بالإضافة إلى ما لديه من سوء إدراك لدوافع مصر وما تخطوه من خطوات في سبيل ضمان أمنها المائي؛ يرى أن ما يتيحه من قواعد منظمة ينبغي قبوله بترحاب وامتنان، بينما تسعى مصر لقوانين حاكمة من منطلق الحق الشرعي والقانوني والتاريخي والإنساني في نهر النيل، الذي تراه مصر والعالم نهرًا دوليًّا، وتراه إثيوبيا نهرًا إثيوبيًّا تُنعم به على دول المصب، ومن هنا يبدأ المسار الذي يؤدي في النهاية إلى طريق مسدود.
3- “نحن غير ملزمين”.. موقف عدم الاكتراث
يدخل المفاوض الإثيوبي إلى طاولة المفاوضات وهو في موقف المتفضل، وليس المشارك، وهو ما يتكرر بصورة مثيرة للانتباه مؤديًا إلى شعور بعدم الالتزام، فهو يدرك بشكل خطأ أنه لا يوجد هناك ما يدفعه نحو الالتزام حيال مصر بوثائق قانونية، أو خطوات فعلية. وإذا قمنا بتحليل مضمون تصريحات كل من وزير الخارجية ورئيس الوزراء الإثيوبيين نجد جملة “إثيوبيا غير ملزمة بالتوصل إلى اتفاق قبل ملء سد النهضة” لا يخلو منها أي تصريح، بل إن جملة “إثيوبيا غير ملزمة” تُعد الجملة الأكثر تكرارًا في التصريحات المعلنة، وهي التي تكون خلفها قناعة داخلية بأن الالتزام يجب أن يسبقه إلزام. إن قناعة عدم الالتزام تلك كفيلة بلا شك بإفشال مسار أية مفاوضات، وتحويلها إلى إجراء شكلي. إن عدم الالتزام يؤدي إلى تصلب في التفكير، ويعوق مرونة المواقف؛ فالجلوس إلى طاولة التفاوض دون شعور بالتزام يجعل من الرفض بديلًا قليل التكلفة، ويُعزز من سيكولوجيا عدم الاكتراث. فعندما قال وزير خارجية إثيوبيا “غيدو أندارغاشيو”، مساء الجمعة 19 يونيو، إن بلاده ماضية قدمًا في ملء سد النهضة الشهر المقبل، سواء بالاتفاق مع مصر أو دونه؛ أظهر تصريحه عدم الاكتراث بموقف الطرفين المتضررين، وليس الإصرار على المواصلة. وعند التطرق لتصريح أحد أعضاء فريق التفاوض الإثيوبي عندما وُجه له سؤال حول إمكانية حدوث جفاف ناتج عن بناء السد قائلًا: “إنه في حالة حدوث جفاف، يتعين على مصر وإثيوبيا مواجهته معًا باعتباره ظاهرة طبيعية”، يطرح تساؤلًا استنكاريًّا مهمًّا، هو: هل تود إثيوبيا بالفعل التوصل إلى اتفاق منصف؟
4- الإنصاف هزيمة.. “لن أنتصر إذا خرج الآخر بنتائج منصفة”
إن قناعة ضرورة وجود طرف خاسر في العملية التفاوضية غالبًا ما تكون كارثية، التفاوض يقوم بصورة رئيسية على توافقات وتنازلات مقابل مكاسب لدى كل طرف؛ إلا أن الطرف الإثيوبي ينظر إلى أي مكسب يمكن أن تحققه مصر من العملية التفاوضية بوصفه خسارة له، وهي رؤية حادة تؤدي بأية مفاوضات إلى طريق مسدود. فعندما يعلق المفاوض الإثيوبي قائلًا: “لن تتحمل إثيوبيا الألم وحدها، لتزدهر مصر”، يطرح تساؤلًا مهمًّا: لماذا يجب أن يتحمل أي طرف من الأطراف الألم، لماذا لا ينجو الجميع؟ والحقيقة أن المنطق قد يفشل في تفسير هذا البعد النفسي الذي يقوم على السعي نحو الشعور بالقوة والتحقق من خلال خروج طرف مهزوم. إذا خرجت مصر في وضع منصف من المفاوضات سيُدركها الطرف الآخر ممثلًا في إثيوبيا بوصفها خسارة، يزيد من تفاقم الوضع ما صوره الحشد الإعلامي والشعبي الذي صور قضية التفاوض مع مصر بأنها معركة، وأنه بالضرورة يجب أن تخرج مصر خاسرة، حتى يستطيع المسئولون في إثيوبيا إعلان انتصارهم، بل إن هناك من يدرك في إثيوبيا أن عملية التفاوض -في حدّ ذاتها- تنطوي على تنازل.
5- حديث الحرب وقت التفاوض
عند متابعة مسار المفاوضات وما يعقبها من تصريحات (والمقصود هنا التصريحات الرسمية)، لا شك سيُلاحَظ أن النبرة التصعيدية تسود في تصريحات الجانب الإثيوبي، على الرغم من أن المنطق يقول العكس، لأن الطرف المتضرر، وهو هنا مصر والسودان، هو من ينبغي عليه تبني لغة التحذير في حال الإضرار بمصالحه التي يضعها الطرف الأول على المحك. ويثار هنا تساؤل مهم: لماذا يعلو صوت المسئولين الإثيوبيين إن كانوا بالفعل يجلسون على مقعد القوي والمانح؟ كما سبق وأن ذكرنا، لماذا يخرج رئيس وزراء إثيوبيا “آبي أحمد” على الملأ متحدثًا عن الحرب؟ قائلًا إنه “إذا اضطرت بلاده إلى خوض حرب بشأن سد النهضة، فيمكن لها أن تحشد الملايين من أجل المواجهة”. والحقيقة أن الضجيج المثار من الجانب الإثيوبي يُخفي قلقًا عميقًا، وليس اطمئنانًا كما يروج البعض، وتكرار الحديث عن الحرب والاستعداد لها، يعني أن هذا البُعد هو مصدر القلق الرئيسي لإثيوبيا، فالصوت العالي هنا يخفي فزعًا كامنًا وحالة عدم استقرار وانعدام يقين أوصل رئيس الوزراء الإثيوبي إلى المبادرة بالتهديد، عندما صرح قائلًا: “إذا كانت هناك حاجة إلى الذهاب إلى الحرب، فيمكننا حشد الملايين، وإذا تمكن البعض من إطلاق صاروخ، فيمكن للآخرين استخدام القنابل”. واللافت أن رئيس الوزراء الإثيوبي قد أطلق هذا التصريح بينما كان مسار المفاوضات لا يزال قائمًا.
6- جلب العداء
هناك سعي حثيث لدى الحكومة الإثيوبية لوضع مصر في موضع “الدولة العدو”. ويبدو أن هذا السعي يأتي بهدف خلق “بؤرة كراهية” يتم استغلالها في التنفيس عن طاقة الغضب المتنامي في الداخل حيال الحكومة الحالية، وما تشهده من احتقانات داخلية. إن هناك محاولة لتحويل مصر من “طرف متضرر” يحاول من خلال المفاوضات درء الضرر الواقع عليه والوصول إلى نتائج مرضية ومضمونة لجميع الأطراف، إلى طرف يسعى للنيل من إثيوبيا ومحاولاتها تنمية مواردها الداخلية. ولا يقتصر الأمر على هذا، بل إن اللغة التي يتم استخدامها تصور مصر كدولة مستعمرة، تسعى إلى فرض إرادتها وسيطرتها على “الملكية الإثيوبية المتصورة”. على سبيل المثال، علق أحد أعضاء فريق التفاوض الإثيوبي “زريهون آبي” بأن “المصريين” -على حد زعمه- “يعتقدون أنه يمكنهم فرض رغباتهم الاستعمارية على دول المنبع، ويريدون جعل إثيوبيا ودول المنبع الأخرى مستعمراتهم”. والحديث هنا يتخذ لغة تتسم بالعمومية، وهو إدراك يبدو أنه قد تأصل لدى شريحة من الشعب الإثيوبي عبر شحن إعلامي متواصل، يساعد بدوره في محاولات كسب أصوات في الداخل، في وقت تغرق فيه الحكومة في إثيوبيا في عدة ملفات، حيث يبدو ملف الصدام مع مصر حول سد النهضة قضية ملائمة للإلهاء وتعبئة للحرب التي تتضاءل بجوارها أي شواغل أخرى